كيف تستخدم الدولة تاريخها لبناء ثروتها الفكرية وإدارتها؟!

المعرفة أكثر أهمية في بناء قوة الدولة من الموارد الطبيعية، ولقد أصبحت قيمة رأس المال الفكري تفوق في أهميتها الأصول المادية.
لذلك فإن الدولة التي يمكن أن تحقق التقدم والنهضة والقوة خلال القرن الحادي والعشرين هي تلك التي تتمكن من إدارة المعرفة بكفاءة، وتستثمرها في تطوير مواردها البشرية، وبناء القوة العقلية والفكرية لشعبها.
وإدارة المعرفة تبدأ بدراسة الموارد المعرفية والثقافية للدولة..
لكن ما دور التاريخ في بناء الثروة المعرفية والثقافية ورأس المال الفكري؟!
الإجابة عن ذلك السؤال تشكل بداية لانطلاق الأمة، وبناء المستقبل.. كيف؟!
تراكم الخبرة وصنع القرارات!
إن التاريخ يشكل الخبرة المتراكمة للأمة، وهذه الخبرة تساهم في زيادة قدرات صناع القرار على بناء السياسات، لذلك تزايد الاهتمام بمفهوم “التعلم من التاريخ” ليكون أساسا لتطوير السياسة والاقتصاد، وتحقيق التغيير.. وهذا المفهوم يمكن أن يشكل مجالا علميا جديدا يجب أن تعمل الجامعات العربية لتطويره، واستخدامه في تأهيل قيادات جديدة تقوم بإدارة المعرفة التاريخية في بناء قوة الدول.
زيادة الثروة المعرفية.. كيف؟!
كما أن هذا المفهوم يشير إلى ضرورة فهم أنفسنا، والتعرف على القوى والاختيارات التي شكلت الحاضر..
لذلك تزايد الاهتمام بالمعرفة التاريخية، وربط هذه المعرفة بتطوير قوة الدولة حيث إنها تساهم في بناء شخصية الدولة.
وارتبط مفهوم المعرفة التاريخية بمفاهيم أخرى مثل الوعي التاريخي والتفكير التاريخي.. وهذه المفاهيم تساهم في تطوير العلاقة بين علوم متعددة تساهم في زيادة الثروة المعرفية والثقافية، وإدارتها.
هذه المفاهيم أدت إلى طرح الكثير من الأسئلة حول أهمية التاريخ في فهم عملية التغيير في المجتمعات، وتأثيرها في الحاضر ومساهمتها في استشراف المستقبل.
فكيف تغيرت الإمبراطوريات والدول والمجتمعات.. وكيف تطورت اللغات والأفكار والاتجاهات؟!
إدارة المعرفة التاريخية!
هذا يعني أن التاريخ ليس مجرد أحداث وقعت في الماضي، وانتهى تأثيرها، بل هو عملية تغيير مستمرة بدأت في الماضي.
لذلك فإن قوة الدولة تعتمد على فهم عملية التغيير، وبناء الخبرة التراكمية، والاستفادة من التجارب، والتفاعل مع الأحداث التي يكون لها تأثير ممتد عبر الزمن.
هذا يعني أن هناك حاجة لتطوير مناهج التاريخ بحيث لا تقتصر على تسجيل الحوادث والوقائع الماضية والعمل على فهمها.. بل لابد من العمل على معرفة تأثيرها في الواقع الراهن، واستخدام الخبرة الناتجة عنها في بناء المستقبل.
وهذا يساهم في تطوير المعرفة التاريخية وإدارتها، ويفرض علينا أن نطور أدواتنا في جمع المعلومات التاريخية وتنظيمها وتفسيرها للتوصل إلى الحقيقة التاريخية.
الذاكرة الجمعية والمعرفة التاريخية!
يرتبط مفهوم الذاكرة الجمعية للشعب أو الدولة أو الأمة بالمعرفة التاريخية.. ولقد أصبح تجاهل هذه الذاكرة يشكل ضررًا بمستقبل الأمة.
لذلك فإن تطوير علم التاريخ ومناهجه وبناء المعرفة التاريخية يساهم في الحفاظ على الذاكرة الجمعية التي ترتبط بالهوية، والإحساس بالمجتمع وبأهمية الانتماء له.
وهذا يعني أن التاريخ يساهم في بناء الذاكرة الجمعية التي تحفظ وحدة المجتمع وتماسكه، وبدون تلك الذاكرة يمكن أن يتفكك المجتمع، وهذا أحد جوانب خطورة فقدان الذاكرة التاريخية الجمعية.
وهو ما أشار إليه إميل دوركايم بقوله: إن المجتمعات تحتاج إلى الترابط مع الماضي للمحافظة على وحدة المجتمع وتجانسه، ومما يساهم في حماية وحدة المجتمع التقاليد الدينية والعقائد والقيم المشتركة والعادات.
التفكير الجمعي وتوحيد المجتمعات
ويربط إميل دوركايم استمرارية المجتمعات بالتفكير الجمعي حيث يعتمد الأفراد في تفكيرهم على التجارب المشتركة داخل الجماعة.. وهذا يعني نقل الماضي إلى الحاضر..
لكن ما الذي يحفظ الذاكرة الجمعية للشعب، ويجعل الأفراد يفكرون بطريقة جمعية؟
إن كل دولة تحتاج إلى تقوية الذاكرة الجماعية لشعبها عن طريق إدارة المعرفة التاريخية، وتذكير الشعب بشكل مستمر بأحداث ظهرت فيها وحدة الشعب، وربط هذه الأحداث بالحاضر.
وتزداد أهمية القادة الذين يتمكنون من رواية قصة شعبهم، والتذكير بشكل مستمر بالأحداث التي تزيد وحدة هذا الشعب وتماسكه.
لذلك ظهرت علاقة واضحة بين تأثير القيادة وقدرتها على رواية القصص وإدارة المعرفة التاريخية، وتقوية الذاكرة الجمعية لشعوبها. ويعتبر الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان نموذجا مهما للقيادة التي تستخدم أحداث التاريخ في زيادة قوة دولته، وتوحيد مجتمعه، وتذكير أعداء تركيا بالانتصارات التركية، كما حدث عندما وجه رسالة قوية إلى اليونان بتذكيرها بالنصر الذي حققته تركيا على اليونان في أزمير.
لذلك ارتبطت إدارة المعرفة التاريخية بمفهوم البناء الاجتماعي للذاكرة. وهذا البناء يتأثر باحتياجات الشعب الواقعية، فيتم التركيز على الأحداث التي تشبع تلك الاحتياجات.
ويساهم قادة المجتمع في البناء الاجتماعي لذاكرة شعوبهم عن طريق اختيار الأحداث التي يركزون عليها في خطابهم.
بناء الذاكرة وتفسير الماضي
لكن البناء الاجتماعي لذاكرة الشعب لا يحتاج فقط إلى اختيار الأحداث التي يتم التذكير بها، ولكن يحتاج أيضًا إلى عملية تفسير للتاريخ.
ولذلك تزايدت الحاجة إلى ترشيد عملية اختيار الأحداث التي يتم التذكير بها وتنظيمها لبناء رواية متماسكة يتم تقديمها بأساليب تتناسب مع احتياجات الشعب في الحاضر، والتحديات التي تواجهه.
إن الشعوب تحتاج في مراحل معينة إلى تذكر أحداث وأشخاص، وهذا يعني تفاعل التاريخ مع الحاضر، فهذا التاريخ يساهم في زيادة حيوية المجتمع وقدرته على بناء القوة السياسية.
وهذا يعني أن الذاكرة العامة أو الجمعية لا ترتبط فقط بإعادة تقديم الماضي، بل ترتبط أيضًا باحتياجات الحاضر وتوقعات المستقبل.
لذلك فإن إدارة المعرفة التاريخية ترتبط بكيف تتذكر الشعوب ماضيها ولماذا؟!
فكيف نحول التاريخ إلى فاعل في تلبية احتياجات الواقع وبناء المستقبل.. وكيف نفسر أحداث الماضي بأسلوب يحفظ لها وحدتها وتماسكها؟
العلاقة بين الإبداع وإدارة المعرفة التاريخية
هل هناك علاقة بين قدرة الشعب على الابتكار والإبداع والتوصل إلى حلول جديدة للمشكلات من ناحية والمعرفة التاريخية والتفكير الجمعي والذاكرة العامة من ناحية أخرى؟!
هذا السؤال يمكن أن يفتح مجالًا علميًّا جديدًا، ويوسع نطاق إدارة المعرفة التاريخية.
وكما أن الإنسان يحتاج إلى ذاكرته وخبرته التاريخية ونسبه لبناء مكانته الاجتماعية وترقية حياته وتحقيق النجاح.. فإن الشعب يحتاج إلى المعرفة التاريخية لزيادة قدرته على مواجهة التحديات والتوصل إلى حلول مبتكره للمشكلات. وهذه الحلول المبتكرة لا يمكن التوصل إليها دون فهم أخطاء الماضي، والهزائم التي تعرض لها الشعب، والانتصارات التي حققها.
ولقد ساعدت المعرفة التاريخية الكثير من الشعوب والدول على التوصل إلى حلول جديدة لمشكلاتها، واستطاعت أن تحقق النهضة والتقدم عندما استفادت من تجربتها التاريخية، وقامت بإدارة المعرفة التاريخية واستخدامها لمواجهة التحديات.
سياسات الذاكرة
ظهر مفهوم سياسات الذاكرة ليشكل إضافة علمية مهمة.. فماذا يجب أن نتذكر وكيف نستفيد من التذكير بالأحداث الماضية لكي نبني وحدة الدولة ونحافظ عليها.
فكما يجب أن ينسى الشخص أحداثًا معينة تسبب له العجز والإحباط والخوف، فإن الشعب أيضًا يمكن أن ينسى أحداثًا مؤلمة مثل الحروب الأهلية.
ولذلك حاول الشعب الأمريكي أن يركز على حلمه بإقامة دولة الديمقراطية والرفاهية ليتغلب على ذكريات الحرب الأهلية، وكذلك فعل شعب رواندا.
وهنا تظهر أهمية الاختيار في رواية القصص والأحداث، وهي عملية مهمة في إدارة المعرفة التاريخية.
من ناحية أخرى تحاول الدول تذكير الدول المعادية لها بالأحداث السيئة في تاريخها، وتجاهل الأحداث التي يمكن أن تجعل الشعب المعادي يشعر بالفخر والعزة والتطلع لبناء المجد والحضارة.
وهذا يمكن أن يفسر تركيز المستشرقين على الأحداث السيئة في التاريخ الإسلامي، التي تثير الفرقة والتشرذم والاختلاف وعدم الثقة في الذات واليأس والإحباط في الأمة الإسلامية.
وبينما يذكّر المستشرقون بتلك الأحداث السيئة، يتجاهلون الجوانب المضيئة والمشرقة والإنجازات الحضارية في التاريخ الإسلامي.
لذلك حاول الغرب أن ينسى!!
هذا يمكن أن يحدث على مستوى الدولة نفسها، فعلى سبيل المثال تجاهل الغرب الأدب والتاريخ اللذين كتبهما الصليبيون لأنهما يشكلان عارًا على الغرب، ويكشفان المذابح التي ارتكبها الصليبيون، كما يكشفان الأحداث التي تشكل فخرًا ومجدًا للمسلمين.
كما تجاهل الغرب كل القصص التي نقلها الصليبيون عن المقارنة بين أساليب حياة الغربيين والمسلمين، مثل الاهتمام بالنظافة الشخصية، الذي جعل الصليبيين يشعرون بالدونية أمام التقدم الإسلامي، وكيف أنهم تعلموا تنظيف أبدانهم وهو أساس الرفاهية.
في ضوء ذلك فإن عملية الاختيار والتركيز على أحداث معينة أدت إلى تشويه الذاكرة الجمعية في أحيان كثيرة، وكان لها الكثير من السلبيات.. لكنها أيضا تبدو عملية ضرورية في الكثير من الأحيان حيث تشكل استجابة لاحتياجات الحاضر، ولزيادة قدرة الشعب على التوحد وبناء مستقبله.. فكيف نتعلم إدارة معرفتنا التاريخية؟!