الأرض للشرقاوي وشاهين.. الدفاع عن الأرض بالدماء

يدفع المواطن الفقير ثمن قرارات الحكومات بالإنشاءات تحت شعار المصلحة العامة، وفي فيلم الأرض بينما تكون المصلحة شخصية خاصة لمحمود بيه، يدفع الفلاحون الذين يعيشون على فتات الأرض وبكدهم فيها الثمن، وتحت شعار السكة الزراعية التي ستحمل المدنية والتقدم للقرية يتم الاستيلاء على أراضي الفلاحين مصدر حياتهم ورزقهم.
وبين الفيلم السينمائي الذي كتب قصته عبد الرحمن الشرقاوي وكتب السيناريو والحوار حسن فؤاد وأخرجه يوسف شاهين، والواقع في جزيرة الوراق أو في مثلث ماسبيرو أو في مقابر المماليك تجد خطًا مستقيمًا يمتد من الخيال إلى الواقع.
العيش على حد الكفاف
منذ بداية الفيلم يتضح أمام المشاهد حالة أهل قرية (رملة الأنجب) حيث تدور أحداثه، فهم جميعًا من الفقراء الذين يعيشون على حد الكفاف، حيث مظاهر الحياة توحي بالفقر حتى أننا نجد أسرة بطل الفيلم محمد أبو سويلم -شيخ غفر القرية- الذي فصل من خدمته لتضامنه مع الفلاحين.
يظهر محمد أبو سويلم منذ اللقطة الأولى للعرض السينمائي وهو مرتبط بالأرض وكأنها حبيبته من خلال لمسة يده للأرض وتأمله لأوراق زهرة القطن، بينما يقول أحد الكبار إن هذا الرجل أبو سويلم الذي يشكو من عدد أيام نوبة المياه “الراجل أبو سويلم ده مش جايبها لبر أخرته وحشة”.
يطمع محمود بيه كبير المنطقة في عمل سكة زراعية من الطريق إلى قصره، فيبدأ في التخطيط لذلك بداية من إلهاء الفلاحين في مدة أيام الري فيخفضها بالاتفاق مع العمدة من عشر أيام إلى خمسة أيام فقط.
يثور الفلاحون يتزعمهم أبو سويلم وعبد الهادي أحد شباب القرية، ويقترح محمد أفندي كتابة مذكرة اعتراض لتوصيلها للمسؤولين، ولكن محمود بيه الذي يعرف طباع أهل القرية يقنع محمد أفندي أن يجمع توقيعات أهل القرية، وهو سيكتب مذكرة للمطالبة ببقاء مدة أيام الري كما هي، وفي الحقيقة فإنه بالمذكرة يطالب بالطريق لقصره مستغلًا التوقيعات.
الصراع على الري
بعد تخفيض مدة الري يحاول الفلاحون ترتيب ري الحقول، ولكن نظرًا لقصر المدة يبدأ الصراع بينهم، وبدلًا من النضال من أجل عودة مدة الري كما كانت يتشابكون ويتقاتلون، وبينما هم كذلك تقع البقرة الخاصة بعبد الهادي في الساقية، وفي إشارة للشرقاوي وشاهين إلى طبيعة المصري وقت الأزمة يتحول عبد الهادي ودياب شقيق محمد أفندي من متعاركين إلى سواعد تقف بجوار بعضهما لإنقاذ البقرة، ويتحول الجميع في القرية إلى سواعد تحل الأزمة.
البطل الفردي لا يجدي
تتحول أزمة المياه إلى كارثة الطريق الزراعي، ويبدأ أبو سويلم ومعه عبد الهادي في مقاومة القرار، يجيء الشيخ حسونة واحد من ثلاثي نضال قديم أبو سويلم وحسونة والشيخ يوسف إلى القرية للدفاع عن أرضه مع أهل القرية، يسأله محمد أفندي ابن شقيقته عن الحل يقول إنه لا بد من وقوف أهل البلد جميعًا في مواجهة القرار “مفيش شخص واحد يقدر يحل المشكلة” الجملة نفسها التي قالها أبو سويلم لعبد الهادي “لو أتجمع أهل البلد لا أحد يقف أمامهم لا عمدة ولا حكومة ولا حتى الإنجليز سلطة الاحتلال”.
أهم أفلام السينما العربية
يحتل فيلم الأرض المكانة الثانية في قائمة أهم أفلام السينما المصرية، والمرتبة الرابعة في قائمة أهم 100 فيلم في السينما العربية.
يعد النقاد الأرض أيقونة أفلامنا السينمائية بما يحمل من رؤية ثورية وتقدمية، وبما يحمل من رسالة للعدل الاجتماعي، وهو الفيلم الذي ينير الطريق إلى التغيير الذي ينشده المناضلون من أجل التغيير.
الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا
عهد وعلينا أمانة ها تصبح بالخير مليانة
يا أرض الجدود يا سبب الوجود
ها نوفي العهود بروحنا نجود
وعمرك م تباتي عطشانة..
الخطوة الأولى للتغيير
لا نستطيع أن نقف أمام مشهد واحد في فيلم الأرض، فالرواية الأصلية لعبد الرحمن الشرقاوي يمكنك أن تقف أمام كل ورقة وجملة وكلمة فيها من حيث الرسالة، كذلك الحوار الذي كتبه حسن فؤاد أما يوسف شاهين فقد استطاع في كل مشهد أن يظهر عبقرية فريدة في استخدام الكاميرا وتحريك الممثلين والمجاميع، لكنني أتوقف عند مشهد من مشاهد السينما المصرية الفريد.
مشهد اجتماع أهل القرية للبحث عن مخرج يتقدمهم ثلاثي ثورة 1919، حسونة ويوسف وأبو سويلم، يبدأ أبو سويلم في مشهد تمثيل رهيب من محمود المليجي فيعدد أيام بطولات الثلاثة أمام الجميع ماذا كانوا؟ أو كيف أصبحوا؟
يحكي عن أيامهم في الحرب العالمية الثانية مع الإنجليز كسخرة وبطولاتهم، ثم أيام الثورة وكيف قطعوا خطوط السكك الحديدية وسقوط شهداء منهم، لكنهم لم يتوانوا “لإننا كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة”.
ويصرخ أبو سويلم فيهم “وبعدين دلوقتى بقينا فين؟ كل واحد راح لحاله.. كل واحد شق طريقه.. كل واحد افتكر نفسه ونسي الباقين.
لكن فين كانت أيام زمان اللي ما تتعوض.. كان عندنا مروءة.. كان عندنا قلب.. كنا رجالة.. كنا فخر البلد.. شرفها وزينتها.. وادي النتيجة اللي وصلنا لها دلوقتي.. قاعدين نتكلم، واللي يقول بكره تتعدل واللي يقول الصبر طيب.. واللي يقول كلام واللي ما يعرفش يقول إيه.. بقينا عايشين في كلام ونايمين في كلام.. ساكتين في كلام.. كل حياتنا بقت كلام في كلام في كلام.
النهاية
رغم تأثير كلمة أبو سويلم في الجموع، وبداية مرحلة مقاومة للمشروع الخاص بمحمود بيه يقود المقاومة عبد الهادي إلا إن محمود بيه يستطيع أن يستميل الشيخ يوسف بوعده بمنصب العمدة للقرية، بينما يستميل الشيخ حسونة بالحفاظ على أرضه بعيدًا عن الطريق الجديد، ومعه محمد أفندي.
يجيء بالهجانة وعساكر المديرية ليقفوا أمام من يقاوم، أما أهل القرية فيذهبون للعمل في الطريق الجديد للحصول على قروش قليلة، ولا يجد محمد أبو سويلم معه سوى عبد الهادي، ولا يترك أبو سويلم أرضه ليستشهد فيها ممسكًا بتراب الأرض وسيقان القطن، مضحيًا بنفسه دفاعًا عن الأرض، لتظل اللقطة في عقل ووجدان كل من يدافع عن أرضه التي لا تروى ولا تحرر سوى بالدماء.