المشهد الساحر للبريطاني والمؤلم للعربي في تنصيب الملك تشارلز الثالث!

بريطانيا ملكية دستورية، الملك لا يحكم، ولا يمتلك سلطات وصلاحيات في إدارة الدولة، السلطة كلها في أيدي رئيس الحكومة والوزراء، والنظام السياسي برلماني، الحزب الفائز بالأغلبية هو من يشكل الحكومة.
مع هذا، تكشف وفاة الملكة إليزابيث الثانية عن قيمة كبيرة للملكية، ولمن يجلس على العرش، فلا يحدث مثل هذا الحزن العام على رحيل الملكة والتعاطف الشعبي الواسع معها، إذا كان المتوفى هو رئيس الوزراء رغم أنه صانع السياسات ومنفذها وبسياساته تتأثر حياة المواطنين إيجابًا أو سلبًا.
ومرجع ذلك ليس لكون المؤسسة الملكية قديمة وعريقة ومتجذرة في الواقع البريطاني والوجدان الشعبي فقط، وإنما لأن الملك هو رمز عام يلتف حوله الشعب البريطاني، فالأصل أنه يظل على العرش دون تغيير إلا في استثناءات وظروف معينة تجعله يتنازل عن المنصب أو تجبره على ذلك.
أما رئيس الوزراء الحاكم الفعلي للبلاد فهو يتغير كثيرًا، وليست هناك فترة محددة لبقائه في مقر الحكومة، قد يبقى عشر سنوات أو أكثر، وقد يبقى أعوامًا قليلة، فهذا مرهون بنتائج الانتخابات العامة، أو باتجاه داخل الحزب الحاكم لتغييره، وأحدث الضحايا رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون، والمفارقة أنه كان قد حل محل تريزا ماي التي أطاح بها حزب المحافظين أيضًا بنفس السيناريو تقريبًا.
منذ تنصيبها عام 1952 وحتى رحيلها قبل أيام قامت الملكة بتكليف 16 حكومة، ترأسها 15 قياديًّا من الحزبين الرئيسيين (حزب المحافظين وحزب العمال، واحد منهم هو هارولد ويلسون شكل الحكومة مرتين).
لهذا يلتف البريطانيون حول من يجلس على العرش ولو كان منصبه بلا فاعلية تنفيذية، لأنه رمز وحدتهم وهو الشخص الذي يجدونه على الدوام رأسًا للدولة والكنيسة، بعكس منصب رئيس الحكومة الدائم التغيير.
الوفاة والتنصيب.. والمتابعة الواسعة
وكما يتابع العالم باهتمام واسع انتخاب رئيس جديد في أمريكا كل 4 سنوات، فإن وفاة ملكة بريطانيا ومراسم تنصيب نجلها وولي عهدها تشارلز الثالث ملكًا هو حديث العالم الآن ومجال اهتمامه ومتابعته بشكل هائل، ذلك لأنها أول رمز ملكي يرحل في ظل التطور الكبير للإعلام التقليدي القديم، والصعود الهائل في الإعلام الجديد، فقد جلست الملكة على العرش في زمن الصحافة المكتوبة والراديو وبواكير البث التلفزيوني، واللقطات المتوفرة لها من هذا الحدث في فبراير/ شباط 1952 تم تصويرها بكاميرات سينمائية من شخصيات في العائلة الملكية للذكرى وليس لتسجيل الحدث كاملًا لعرضه على الشعب البريطاني.
واليوم تتم مشاهدة وقائع رحيلها وتنصيب تشارلز الثالث ملكًا لحظة بلحظة على الهواء مباشرة.
أهم لقطة في التنصيب
بوصفي شخصًا عربيًّا تلفت انتباهي في رحيل ملكة بريطانيا أمور عديدة، أهمها وأكثرها مغزى ما جرى في مراسم مجلس العرش خلال تنصيب الملك الجديد، وهو مشهد الشخصيات التي تقف في الصف الأول، ضمن حضور هذه المناسبة التاريخية، وهم سبعة تولوا رئاسة الحكومة، وظلوا متجاورين في انضباط والتزام.
أحدثهم ليز تراس التي لم تمارس عملها فعليًّا بعدُ، حيث لم تمر عدة أيام على تكليف الملكة الراحلة لها بتشكيل الحكومة.
وكان إلى جانبها ستة من رؤساء الوزراء السابقين، هم وفق الأقدمية: جون ميجور، وتوني بلير، وجوردون براون، وديفيد كاميرون، وتريزا ماي، وبوريس جونسون. (تبدأ فترة حكمهم من 1990 حتى 2022)
هذا مشهد نابع من ديمقراطية حقيقية، ويعكس تداول سلطة جاد، فهذه الأسماء تولت الحكم مدة ٣٢ عامًا بمتوسط 5 سنوات وعدة أشهر لكل واحد منهم، وهذا مشهد ساحر للبريطاني ومثير لفخره واعتزازه.
في نفس الفترة تقلد الرئاسة في أمريكا ستة رؤساء بنفس متوسط الفترة الزمنية، وهذا طبيعي في بلدين ينعمان بديمقراطية شعبية حقيقية راسخة، وكانت بريطانيا قد سيطرت على أمريكا مدة زمنية، ثم زال الاحتلال، وقد استفادت أمريكا من تجربة الإصلاحات السياسية والديمقراطية لدولة الاحتلال.
ومعظم البلدان العربية والإسلامية خضعت للاحتلال البريطاني، لكن لم تأخذ أي دولة شيئًا من إيمان المحتل بالديمقراطية والدستور والحقوق الأساسية والحريات والإرادة الشعبية حيث اتجهت بعد التحرر إلى حكم الفرد وإخضاع الشعوب.
والديمقراطيات القليلة القائمة في العالم الإسلامي يعتريها التشوه والضعف، وديمقراطيات الربيع العربي لم تُتَح لها الفرصة للنمو، أو ذهبت سريعًا ضحية صراعات فرقاء السياسة والطامعين في الوصول إلى السلطة، والاحتراب الأهلي، وتربص مؤسسات الحكم القديمة حتى استردت ما كانت قد فقدته.
رئيس حالي فقط
انظر لخريطة النظام الرسمي العربي منذ خمسينيات القرن الماضي حيث التحرر من الاحتلالات الأوروبية؛ بريطانية وفرنسية وإيطالية، وحتى اليوم بعد طيّ صفحة الربيع العربي، لن تجد رئيسًا سابقًا بجوار رئيس حالي، مثلما وجدنا ستة رؤساء حكومات سابقين بجانب أحدث زميلة لهم تدخل 10 داوننغ ستريت.
هذا مشهد غائب وممنوع، مؤلم ومثير للأسى والكمد، حيث لا رئيس سابقا في النطاق الجغرافي العربي والإسلامي يعيش حياته كمواطن عادي مثل خمسة رؤساء أمريكيين سابقين، ورئيسين فرنسيين، وستة رؤساء حكومات في بريطانيا، وهكذا الأمر في كل بلدان العالم الحر.
وجوه باسمة مشرقة
وجوه طابور رؤساء الحكومات السابقين، وهم يقفون وسط الشخصيات الأخرى، لا تبدو عليها تجاعيد الزمن والخوف من السجون والتنكيل، وجوه باسمة مشرقة قامت بواجبها في الخدمة العامة، ثم استقالت بإرادتها أو إرادة أحزابها، أو إرادة الناخبين وأحدثهم جونسون الذي لم يغضب أو يتشبث بالكرسي ولم يشعل احترابًا حزبيًّا، وإنما سلم بالأمر الواقع وعاد إلى صفوف الشعب.
من الخليج إلى المحيط، وفي دوائر أوسع، لن تجد إلا حاكمًا واحدًا فقط في الدولة والسلطة والأحداث والتصريحات والإعلام، وصوره بمفرده تنتشر في الطرقات والميادين والشوارع والمكاتب الحكومية، وأينما يممت وجهك لن تجد غير هذا الحاكم؛ حاكم منفرد ومتفرد بكل السلطات والقرارات والتوجيهات، حاكم يجلس بمفرده على القمة، فلا منافس له، أو سابق عليه من نفس طينته، لهذا نحن في تخلف وتأخر وفقر وأزمات ومظالم، وهم هناك بناة حضارة للإنسانية، وصناع رفاهية لشعوبهم.