كيف ساهمت قراءة التاريخ في بناء أمريكا وزيادة قوتها؟!

إن قراءة التاريخ بوعي يمكن أن تساهم في بناء الدول وزيادة قوتها. هذه الحقيقة أوضحتها تجربة الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية؛ فلقد قرأ هؤلاء الآباء تاريخ الإمبراطورية الرومانية، وخططوا لإعادة بناء هذه الإمبراطورية، ولكن في بداية تفوقها ومجدها وسيطرتها على العالم.
لكنهم اهتموا أيضًا بتفسير سقوط هذه الإمبراطورية، وفهم العوامل التي أدت إلى تدهورها، واكتشفوا من خلال قراءة تاريخها أن الحكم الاستبدادي الفردي كان هو أهم العوامل التي أدت إلى تدهورها وانهيارها.
حتى لا تسقط!!
لذلك كان هناك اتفاق بين هؤلاء الآباء على أن يعملوا على تجنيب الدولة الجديدة مصير الإمبراطورية الرومانية عن طريق صياغة دستور يضمن توزيع القوة بين رئيس يتم انتخابه بشكل دوري، وكونغرس يقوم بالتشريع والرقابة، وقضاء يحمي العدالة ويضمن تطبيق القوانين على الجميع.
امتداد للإمبراطورية الرومانية.. ولكن!
لذلك اعتبر الآباء المؤسسون أنهم يعيدون مجد الإمبراطورية الرومانية، ويبنون دولة تشكل امتدادًا لها، لكن مع العمل على حماية الدولة الجديدة من عوامل الانهيار والسقوط وأهمها الحكم الفردي الاستبدادي.
هذه القراءة للتاريخ الروماني أثرت أيضًا في أوروبا التي قامت بصياغة مشروع التنوير الأوربي.
فمن أهم المبادئ التي قام عليها هذا المشروع توزيع القوة والسلطة بحيث لا يستأثر بها شخص واحد، نتيجة إدراك خطورة الحكم الدكتاتوري الاستبدادي، الذي كان العامل الرئيس في انهيار الإمبراطورية الرومانية.
ومع ذلك فإن الأوربيين والأمريكيين حافظوا على نمط الحياة الرومانية القائم على العمل لإشباع الاحتياجات المادية، وبناء القوة الصلبة.
النظام التعليمي ووعي الشعوب
لقد كان تاريخ الإمبراطورية الرومانية من أهم الأسس التي قام عليها النظام التعليمي في أمريكا، حيث استند الكتاب الأمريكيون في مرحلة بناء الدولة على هذا التاريخ، وكان الآباء المؤسسون يعتمدون في خطابهم على النصوص التي توضح مجد الإمبراطورية الرومانية وعوامل قوتها وانهيارها.
كان الإعجاب بالإمبراطورية الرومانية يشكل سلوك وتفكير الآباء المؤسسين، والكتاب الأمريكيين الذين قدموا أفكارهم لتشكيل الأساس الفكري لبناء أمريكا المستقلة عن بريطانيا التي لم تكن تغرب عنها الشمس، لتشكل في ما بعد البديل الذي يسيطر على العالم.
الصحافة وحماية الدولة من السقوط
لكن توماس جيفرسون انتبه إلى عامل جديد ومهم يمكن أن يحمي الدولة من مصير الإمبراطورية الرومانية، وهو الصحافة الحرة التي اعتبرها جيفرسون أهم من الحكومة.
لذلك حرص جيفرسون على أن يحمي الصحافة حتى من الكونغرس، فأصدر التعديل الأول للدستور الأمريكي ليمنع الكونغرس من إصدار أي قانون يمكن أن يؤثر في حرية الصحافة.
أما السلطة التنفيذية فإنها لا تستطيع أن تتخذ أي قرارات إدارية بإغلاق الصحف أو وقفها أو إنذارها أو الرقابة عليها.
لذلك كانت الصحافة الحرة من أهم مصادر قوة الولايات المتحدة، وقام الصحفيون بمراقبة السلطات، وكشف الانحرافات والفساد، ومن أهم أشكال الفساد الاعتداء على حريات المواطنين وسوء استخدام السلطة ضدهم.
كما قامت الصحافة الحرة بتحفيز المخترعين والمبتكرين والمتفوقين في كل المجالات على تقديم أفكارهم واختراعاتهم التي تساهم في بناء القوة الصناعية والاقتصادية، وقدمت الصحافة المخترعين والعلماء والباحثين لرجال الأعمال الذين تسابقوا إلى استغلال اختراعاتهم في تطوير المنتجات، مما أدى إلى تزايد قوة الشركات الأمريكية.
ولقد ساهمت حرية الصحافة في زيادة قوة أمريكا الاتصالية والإعلامية وبناء صناعة مضمون يغذي كل الوسائل الإعلامية الجديدة مثل الإذاعة والسينما والتلفزيون.
التاريخ وبناء قوة أمريكا
كان فهم جيفرسون للعوامل التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية وانهيارها هو الذي أمده بأفكار جديدة لتحقيق توازن السلطات والفصل بينها، وتوظيف الصحافة لبناء المواطن العارف الذي يتمكن من ممارسة حريته في الاختيار خلال الانتخابات، ويشارك بفاعليه في إدارة شؤون المجتمع.
وهذه الفكرة هي العامل الرئيس في بناء قوة الولايات المتحدة، وقيامها بإعادة مجد الإمبراطورية الرومانية التي تشكل أمريكا امتدادًا تاريخيًّا وحضاريًّا لها.
ولقد تمكنت الصحافة ووسائل الإعلام من توحيد الأمريكيين حول الحلم الأمريكي الذي يقوم على بناء دولة الرفاهية والديمقراطية.
حماية المواطنين من استخدام القوة الغاشمة
ولقد قامت الصحافة الأمريكية بحماية الشعب الأمريكي من الاستبداد والدكتاتورية، ومنع استخدام القوة الغاشمة ضد المواطنين.
وظل هذا الفهم لعوامل سقوط الإمبراطورية يساهم حتى الآن في المحافظة على وحدة المجتمع الأمريكي وتماسكه، ويمكن أن يعين ذلك على تفسير كيف ساهمت الصحافة الأمريكية في إسقاط ترامب، وفي تحفيز الأمريكيين لحماية الكونغرس من مناصريه الذين حاولوا القيام بدور البلطجية أو الشبيحة في دول الجنوب الضعيفة الفقيرة التي يحكمها الطغاة.
حتى لا تسقط!
لقد عمل الأمريكيون على حماية دولتهم من السقوط لأن تجربة انهيار الإمبراطورية الرومانية ما زالت ماثلة في الأذهان، ويلحّ الكتاب الأمريكيون وصنّاع المضمون الإعلامي على أن تظل حية حتى لا تتكرر، ولا يظهر نيرون جديد يحرق روما الحديثة.
لذلك كنت أتابع الانتخابات الأمريكية وسلوك نواب الكونغرس والجيش والشرطة والشعب بمنظور أكثر عمقا من التغطية السطحية لوسائل الإعلام التي تركز على الحدث دون تقديم تحليل وتفسير له، ودون تقديم “ذاكرة الحدث” التي تعني خلفية الحدث والعوامل التي ساهمت في تشكيله.
إن الأمريكيين يتذكرون توماس جيفرسون وهو يحذر من مصير الإمبراطورية الرومانية التي كان يعمل هو والآباء المؤسسون على إعادة إحياء مجدها، وبناء دولة تشكل امتدادًا لها، دون أن تتعرض لمصيرها.
لذلك منع الشعب الأمريكي ترامب من أن يقوم بعمل يشبه عمل نيرون الذي أحرق روما.
وسقوط تجربة موسوليني تذكرنا!
أما تجربة الفاشية الإيطالية بقيادة موسوليني فإنها أيضًا تقوم على محاولة إحياء مجد الإمبراطورية الرومانية لكنها لم تقرأ النهايات، ولم تحاول أن تبحث في أسباب السقوط.
لذلك كررت الفاشية الإيطالية تجربة الإمبراطورية الرومانية في نهايتها، ومارس موسوليني سلوك الأباطرة الرومانيين المستبدين الذين استخدموا القوة الغاشمة من دون التقيد بأي قيم أو التزامات وأخلاقيات إنسانية.
لذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية ببناء تحالف لمحاربة الفاشية والنازية، ورفعت شعار الدفاع عن الديمقراطية.
ولقد كانت نهاية تجربة موسوليني لا تقل مأساوية عن نهاية الإمبراطورية الرومانية.
ولم تسقط النازية والفاشية وحدهما، بل شهدت نهاية الحرب العالمية الثانية تدهور الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، وتحوُّلها إلى دولة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية تنفذ أوامرها دون أن تتذكر أنها كانت يوما تحتل الولايات المتحدة.
وفرنسا لم تتعلم من التاريخ
كذلك شهدت نهاية الحرب العالمية الثانية تدهور فرنسا، فاضطرت إلى الانسحاب من الجزائر، ولكن كان ديغول يتمتع بالذكاء في اتخاذ قرار الانسحاب لينقذ فرنسا من الانهيار والسقوط، الذي كان نتيجة حتمية للاستمرار في احتلال الجزائر. كما اضطرت فرنسا إلى الانسحاب من الكثير من مستعمراتها في أفريقيا، وكان الانسحاب من مالي هزيمة للفكر الاستعماري الفرنسي الذي يقوم على استخدام القوة الغاشمة.
لكن هل تتكرر تجربة السقوط؟
لقد حافظت الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن على وحدتها وتماسكها وحلمها وديمقراطيتها.. لكن هل يمكن أن تتعرض لمصير الإمبراطورية الرومانية؟
هناك الكثير دروس لم يستطع الرؤساء الأمريكيون استيعابها مثل أن غرور القوة من أهم عوامل الضعف والانهيار.. لقد استخدمت أمريكا قوتها الغاشمة في أفغانستان والعراق، وقامت بإبادة الملايين من البشر، ثم اضطرت إلى الجلوس على مائدة المفاوضات مع طالبان بعد 17 عاما من الصراع.
اما العراق فقد دمرته وخربت بغداد أجمل مدن العالم، ومركز الحضارة الإسلامية التي علمت العالم، ووفرت أمريكا العوامل التي أدت إلى سيطرة إيران على العراق والصراع ممتد في الزمان والمكان، والنتيجة ما زالت من الصعب توقعها.
لذلك فإن الشعب الأمريكي نجح في إنقاذ الديمقراطية من ترامب، والمحافظة على مؤسسات الدولة، لكنه لم يستطع أن ينقذ أمريكا من غرور القوة، وأن يقوم بترشيد استخدام القوة.
فهل ينجح بايدن في المحافظة على أمريكا وإنقاذها من مصير الإمبراطورية الرومانية؟
والقوة الغاشمة سبب السقوط!
عندما درس الآباء المؤسسون تاريخ الإمبراطورية الرومانية فإنهم كانوا يستخدمون منظورًا نقديًّا في قراءة التاريخ، وأرادوا أن يتجنبوا الأخطاء، ويحموا الدولة من الكوارث التي سببها الحكم الدكتاتوري، وبالفعل نجحوا في ذلك. لكنهم لم يتنبهوا إلى أن استخدام القوة الغاشمة يمكن أن يؤدي إلى سقوط لا يقل دويًّا عن سقوط الإمبراطورية الرومانية.
ولقد أوضحت تجربة الفاشية والنازية أن أحلام السيطرة باستخدام القوة تؤدي إلى الانهيار.
لقد سيطرت الإمبراطورية الرومانية على أكثر من نصف العالم المعمور، وكانت تمتلك القوة الصلبة التي تثير الخوف والرعب في قلوب البشر. لكن تلك القوة الصلبة لم تكن معها منظومة قيم وأخلاقيات ومبادئ ترشد استخدامها؛ لذلك كان سقوطها هو الخير للبشرية، وبداية فجر جديد.
وربما يكون ذلك ما غفل عنه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية: إن القوة الغاشمة يمكن أن تستخدم في إبادة الشعوب وقهرها، لكنها قد تكون من أهم أسباب السقوط والانهيار!