أن تكون متحضرًا أو متخلفًا..!

كانت ممتعة متابعة رحلة تشييع جثمان ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية طوال عشرة أيام.
الموت له هيبته ورهبته، والميت له احترامه، إنما الممتع هو السلوك الراقي المتحضر الذي بدا عليه الشعب البريطاني وهو يعبر عن حزنه على رحيل ملكته، وهو يلقي النظرة الأخيرة على جثمانها في قاعة ويستمنستر، وهو ينتظر على الطرقات وفي الشوارع مرور موكب الجثمان عندما كان ينتقل من منطقة إلى أخرى في المملكة المتحدة.
الإنسان هو السلوك، والفارق بين الإنسان وسائر المخلوقات هو العقل والسلوك الناتج عن العقل السوي. قاعدة الحضارة هي إنسان يحترم نفسه ويجيد التعامل مع الآخر، هذا الإنسان بالتكوين الراقي سلوكيًّا سيكون إيجابيًّا ومنتجًا ومفيدًا لمجتمعه وعالمه.
الإنسان البربري والهمجي والعشوائي والفوضوي وصفة جاهزة للتدمير والتخريب، وإذا كان هذا سلوكًا عامًّا لدى جماعة من الناس أو مجتمع من المجتمعات فإن المخاطر مُحققة والدمار واقع، وقصة يأجوج ومأجوج تعبير تاريخي اجتماعي ثقافي ديني عن هذه الحالة في أعلى صورها وأكثرها شراسة وبشاعة.
منظومة القيم
أنا باحث دومًا في كل ما حولي عن مواطن الجمال في الإنسان من حيث السلوكيات والمعاملات ومنظومة القيم والأخلاقيات الحسنة، بدون ذلك فإن الحياة تصير غابة وجحيمًا، يجب أن يتعايش الناس وفق هذه القيم، يتحركون ويعملون ويتفاعل بعضهم مع بعض استنادًا إلى منظومة الأخلاق، وهي منظومة فطرية، رسختها وتممتها الأديان عبر الرسل والأنبياء.
البريطانيون كانوا غاية في النبالة وهم يودعون الملكة؛ رجالًا ونساءً، شبابًا وعجائز، أطفالًا وكبارًا، أصحاء ومرضى وذوي احتياجات، بيضًا وسودًا وملونين، أصحاب عقائد وثقافات وهويات متنوعة.
تابعت هؤلاء الناس بإعجاب وهم صامتون منظمون مهذبون ملتزمون متحركون بتناسق وانضباط وأدب جم وملابس رائعة لتوديع الملكة سواء في الشوارع والميادين أو أمام القصور الملكية أو في القاعة التي بقي فيها الجثمان أيامًا لكي يلقون عليه النظرة الأخيرة.
لا صراخ أو عويل ولا نحيب أو لطم خدود أو تمزيق ثياب أو أي خروج عن مقتضى السلوك الطبيعي في التعبير عن الحزن العميق الجميل.
الحزن المتحضر اللائق
حزن متحضر مخلوط بثقافة وفكر وتعليم ينتمي إلى العالم الأول المتقدم فعلًا، وهذه هي الصورة اللائقة بالشعوب العظيمة، أو التي تريد أن تكون عظيمة.
ولم يكن الشعب البريطاني أو البلدان التي تتحد لتشكل المملكة المتحدة هكذا، كانت همجية تخاصم السلوكيات الرفيعة التي تظهر عليها اليوم ونشيد بها، لكنها قررت أن تُحدث قطيعة مع الماضي وميراثه الأسود، وأن تبني إنسانًا ومجتمعًا ووطنًا جديدًا بعد إصلاحات شاملة لكل مناحي الحياة ومجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والفكر والدين ليحل العقل محل الخرافة وتنتهي أسطورة الحاكم المطلق نصف الإله لتكون السيادة للشعب.
بين الغرب والحضارة الإسلامية
أوربا والغرب كله لم يكن قديمًا على صورته البراقة اليوم، كان يعيش في تخلف عميق وانحطاط، لكنه مع حركة الإصلاح الشامل انتقل نقلة واسعة إلى الأمام ليصير نموذج التحضر اليوم وصانع النهضة وباني الحضارة.
حضارتنا الإسلامية هي النموذج الذي يُقاس عليه في كل ما هو سام وراق في السلوك وحسن التعامل وأدب الحوار وبناء الإنسان المثالي عقيدة وخلقًا وقيمًا ومعاملات.
وقد تم إثبات ذلك على أرض الواقع عقودًا، وقرونًا، ثم يحدث العكس ونرى أنفسنا في حالة تدهور وتخلف وهو عكس ما حصل مع أمم التحضر اليوم التي انتقلت من التخلف والجهل إلى العلم والاستنارة والحرية، ولهذا تقود العالم وتهيمن عليه وتفرض كلمتها ونفوذها بما تنتجه عقولها من إنجازات عظيمة.
بينما كنت منبهرًا بعموم الحالة الشعبية والرسمية البريطانية في سرادق الحزن الواسع المهذب على ملكتهم، كان هناك تفاخر في بلد عربي بأن 21 مليونًا من طائفة ومذهب معين يحيون مناسبة دينية معينة، المعنى هنا ليس المناسبة ولا صاحبها الشخصية العظيمة، إنما المشكلة في السلوك الجمعي التراثي المصاحب للمناسبة مما تأباه الفطرة السليمة والعقيدة الصحيحة والطريقة الملائمة لإحياء الذكرى.
وقد شاهدت فيديوهات لجنائز قديمة مثل عبد الناصر، والخميني، ولم أجد في سلوك الجمهور الواسع ما يُترجم حالة الحزن بأسلوب لائق بالراحلين ومكانتهم في الوجدان العام، ولا ما يليق بمعنى الموت والدروس التي يجب استلهامها من لحظات الفراق وهو قدر مكتوب على الجميع.
غياب ثقافة الانضباط
خلال أيام توديع ملكة بريطانيا لمثواها الأخير تصادف أن ذهبت عدة مرات إلى مرافق حكومية، وما شاهدته كان عجبًا، رغم أنه ليس بغريب في مصر، تكدس وتزاحم شديد للجمهور، واحتكاك ومحاولات اختراق الصفوف المبعثرة لإنجاز المعاملة وصراخ واشتباكات لا تتوقف.
لم نتعود بعد على ثقافة النظام والانضباط، أو لم نعرفها ولا نريد أن نعرفها، السلطة من جانبها تتسبب في نشوء الزحام والسلبيات بسبب نمط الإدارة الذي لا يتطور ولا يتقدم إلى الأمام، العالم يقطع خطوات هائلة في التعامل عبر التكنولوجيا الحديثة ونحن لا نزال نتعامل مع الشبابيك والأوراق والأقلام وكل ما هو قديم.
وأي حديث عن التيسير واستخدام التكنولوجيا محض دعاية خادعة.
ببساطة يمكن للناس أن يقوموا بتنظيم أنفسهم دون وجود عصا للسلطة ترهبهم بها وتجبرهم على الالتزام.
الناس يصنعون جلادهم
الناس هم من يصنعون العصا التي يُعاقبون بها، هم من يصنعون جلادهم بأنفسهم، بفوضويتهم وسلبيتهم وأنانيتهم وصراعات بعضهم مع بعض، وليس بمعرفة حقوقهم والمطالبة بها.
البريطاني الذي كان يدخل قاعة ويستمنستر في نظام وأدب لتوديع الجثمان ويخرج في هدوء منصرفًا إلى وجهته لا يختلف عن المصري الذي يصارع على شباك أو مكتب موظف، كلاهما من نفس التكوين البشري وكلاهما لديه نفس العقل، لكن الاختلاف أن الأول ارتقى سلوكًا وتعاملًا، وشعر بذاته وتحققت له كرامته ونال كل حقوقه وصار صاحب إرادة يمارسها في كل صورها و أعلى صورها وهو تقرير مصيره، واختيار سلطته، ومحاسبة الحاكم، وإبقاؤه في منصبه أو صرفه منه والإتيان بغيره إذا فشل، لكن أيًّا من ذلك لا يزال بعيدًا في عوالمنا الغارقة في السلطوية، وهذا هو جوهر مشكلة الإنسان، ذلك أن الانسحاق يصنع شخصًا منكسرًا ومنهزمًا نفسيًّا ومُحبطًا وأنانيًّا ومنكفئًا على ذاته، لهذا استورد مقولة فرنسية قديمة تخلى عنها أصحابها: “أنا ومن بعدي الطوفان”، ليتخذها ضمن عناوين أخرى عن الانحطاط الذي طال زمنه وتغلغل واستوطن في عقولنا وسلوكياتنا وكل حياتنا.