روسيا وإعلان التعبئة العسكرية.. سياقات ودلالات

في تعريفها للتعبئة العامة، ذكرت الموسوعة العربية أنها تحويل القوات المسلحة الوطنية إلى حالة الحرب أو شبه الحرب، وإعادة بناء اقتصاد الدولة ومؤسساتها وقدراتها ومواردها المادية والبشرية وقوانينها لتوفير حاجات حرب طويلة الأمد وتحقيق أهدافها، وخصوصًا مبدأ حشد القوى.
وتختلف النسبة بين تعداد القوات الموجودة تحت السلاح في زمن السلم أو المدعوة للقيام بما يسمى “الواجب القومي” أثناء دورة التعبئة وتعداد القوات بعد اكتمال التعبئة، وذلك بحسب المذهب العسكري للدولة والإمكانات المتاحة لها وتوافر التسليح والزمن اللازم لرفع الجاهزية القتالية للقوات العاملة، وتطورات المعارك ومستويات صمود هذه القوات حتى يتم استدعاء الاحتياط وتجهيزه لخوض المعارك.
يتعلق مفهوم التعبئة بعوامل كثيرة منها: الكمون العسكري والاقتصادي والبشري للدولة، وسياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية ومقدرة القوات المتحالفة معها وموقفها، والمهلة الزمنية المتاحة لتطبيق التعبئة.
ويتم التمييز في إطار عمليات التعبئة بين الشاملة والجزئية، حيث تتم التعبئة الشاملة في كل أنحاء البلاد، وتشمل تطبيق حالة الطوارئ الشاملة ورفع مستويات الحرب في القوات المسلحة العاملة واستدعاء كامل الاحتياط العسكري والقوات الرديفة وتسخير اقتصاد البلاد وقدراتها لصالح المجهود الحربي. أما التعبئة الجزئية فتتم في المناطق الأساسية التي تمثل مسارح للأعمال الحربية بدرجة أساسية، وتشمل حشد القوات الخاصة بهذه المناطق وعسكرة اقتصاداتها ومواطنيها، وإعلان حالة الطوارئ فيها، ويتم اللجوء إلى هذا النوع من التعبئة في الحروب المحلية أو في الحروب التي يتم النظر إليها على أنها حروب محددة النطاق ولا تتطلب استدعاء كامل القوات. وفي بعض الحالات يتم الإعلان عن تعبئة جزئية وتكون التعبئة الشاملة هي الأساس حتى لا يتم نقل رسائل للخارج عن أن النظام الذي أعلن عن التعبئة مأزوم سياسيًّا أو عسكريًّا، ويسعى لإظهار التماسك أمام مواطنيه من ناحية وأمام منافسيه من ناحية أخرى.
لا تقف التعبئة العسكرية عند حشد الجنود ولكن هناك العديد من الأبعاد المتشابكة
تشمل عمليات التعبئة خططًا متنوعة من إعداد الموارد البشرية ورعايتها وتجهيزها، وإقامة مرافق تدريبها ووضعها في حالة الجاهزية القتالية وفق أهداف الحرب، وتوفير الأسلحة والذخائر والمعدات الضرورية لخوض الحرب والوفاء بمتطلباتها الأساسية. وتعبئة القوى البشرية مهمة معقدة حيث ترتبط بدرجة أساسية بمستوى تعليم العسكريين ووعيهم وروحهم المعنوية وولائهم السياسي وقدرتهم على استخدام السلاح والعتاد المتاح الذي يتفق ومتطلبات الحرب القائمة.
وبجانب الموارد البشرية تأتي أهمية الموارد المادية والخدمات اللوجيستية المساندة، ومنها توفير السلاح والعتاد والقدرة على التعويض والإمداد أثناء العمليات في ظل تقديرات الخسائر المتوقعة، وحجم إنتاج المصانع الحربية، والقدرة على وضع مصانع القطاع المدني تحت الإشراف العسكري، وتدبير استيراد التجهيزات العسكرية الضرورية من الدول الحليفة والصديقة، وإخضاع كل الوسائل الضرورية لصالح المجهود العسكري، وتوفير المنتجات الاستهلاكية والوقود ووسائط النقل ومؤسسات الإنتاج الوسيطة، ومنح السلطات العسكرية الصلاحيات الضرورية للقيام بمهامها الأساسية بكفاءة وفاعلية.
سياقات الإعلان الروسي ومساراته
في الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول 2022، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين ما سمّاه “تعبئة جزئية” في الجيش الروسي، هي الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك على خلفية تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت في الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، وجاء الإعلان في وقت حققت فيه القوات الأوكرانية مكاسب عسكرية على الأرض، ونجحت في تحرير مساحات واسعة من المناطق التي كانت تخضع للاحتلال الروسي.
وفي خطاب إعلان التعبئة، اتهم بوتين الغرب بالعمل على تدمير روسيا وممارسة ابتزاز نووي ضد بلاده، وهدد باستخدام كل الموارد المتاحة لديه للدفاع عن الأراضي الروسية، ونص قرار إعلان التعبئة على أنه وفقًا لقانون الدفاع الفيدرالي الصادر في 26 من فبراير 1997 بشأن التدريب للتعبئة والتعبئة في الاتحاد الروسي وقانون الواجب العسكري والخدمة العسكرية الصادر في 28 من مارس (آذار) 1998، قرر إعلان التعبئة الجزئية في الاتحاد الروسي بدءًا من 21 من سبتمبر 2022.
ونصت المادة الثانية من الإعلان على أن كل المواطنين المطلوبين للاستدعاء للتعبئة الجزئية يحملون صفة أفراد عسكريين يخدمون في القوات المسلحة للاتحاد الروسي بعقود، ونظمت المادة الثالثة الرواتب التي سيتلقاها المطلوبون للتعبئة بموجب تلك العقود، بينما نصت المادة الرابعة على أن تلك العقود ستظل سارية حتى نهاية فترة التعبئة الجزئية، مع استثناء حالات التسريح من الخدمة العسكرية بموجب الأسباب التي حددتها المادة الخامسة من القرار.
وأمر الإعلان -في المادة السادسة- الحكومة الروسية بتمويل أنشطة التعبئة الجزئية، واتخاذ الإجراءات الضرورية للوفاء باحتياجات القوات المسلحة للاتحاد الروسي والقوات الأخرى، وأي تشكيلات عسكرية أو هيئات خلال فترة التعبئة الجزئية، ومنحت المادة التاسعة حق تأجيل الخدمة العسكرية للمواطنين العاملين في منظمات تابعة للمجمع الصناعي العسكري الروسي.
وبعد إعلان القرار، ذكر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويجو أن بلاده سترسل 300 ألف جندي احتياطي لدعم حملتها العسكرية في أوكرانيا، مشيرًا إلى أن هؤلاء الجنود سيحصلون على تدريب إضافي قبل نشرهم في أوكرانيا، وأن الاستدعاء لن يشمل الطلاب أو أولئك الذين خدموا فقط كمجندين، كما أشار إلى وجود 25 مليون مقاتل محتمل تحت تصرّف الدولة الروسية، موضحًا أن الاستدعاء لن ينطبق إلا على جنود الاحتياط ذوي الخبرة العسكرية السابقة، وأن التعبئة ستساعد روسيا على توحيد الأراضي التي تسيطر عليها خلف خط أمامي بطول ألف كيلومتر في أوكرانيا.
وإذا كانت القوانين الروسية تنظم عمليات التعبئة وتحدد شروطها وضوابطها وسُلطاتها ونطاقاتها، ومن تلك الشروط أن تكون روسيا في حالة حرب رسميًّا، فقد احتاج بوتين لذريعة لإعلان الحرب والتعبئة ووضع كامل البلاد فعليًّا في حالة حرب مع أوكرانيا، وتمثلت هذه الذريعة في إقدامه على إجراء ما سمّاه “استفتاء ضم الأراضي الأوكرانية” التي تسيطر عليها قواته إلى الدولة الروسية، لأن الضم الرسمي يسمح للكرملين بإعلان تلك المناطق أراضي روسية تحت هجوم أوكراني، كما حدث في بداية العدوان الروسي في فبراير عندما تم الاعتراف بأقاليم أوكرانية كجمهوريات مستقلة حتى يبرر العدوان بأنه جاء استجابة لطلبات رسمية من حكام هذه الجمهوريات المزعومة، ويستكمل الأمر باستفتاء مزعوم لاستمرار تبرير العدوان.
التعبئة ليست فقط قرارًا ولكن..!!
إن عملية التعبئة العسكرية، سواء كانت شاملة أو جزئية، ليست فقط قرارًا من الشخص المخول باتخاذ القرار، لكنها عملية شاملة تتضمن العديد من الأبعاد والأركان، فهي لا تقف عند حدود احتياطي المجندين في روسيا لكن يمكن تجنيد الآلاف من ذوي المهارات المتخصصة، مثل الأطباء والمهندسين والعمال والفنيين والمهنيين والأفراد العسكريين المسرَّحين، كما يواجه الخاضعون للتجنيد الإجباري قيودًا على تحركاتهم بما في ذلك قدرتهم على مغادرة البلاد.
كما تشمل إجراءات التعبئة الروسية ضخ استثمارات كبيرة في شراء الأسلحة، وتحسين ظروف الخدمة في القوات المسلحة وصناعة الدفاع، وأنظمة القيادة والسيطرة وتعزيز التنسيق بين الوزارات، كما تنطوي على برنامج مكثف من التدريبات تشارك فيه أجهزة الأمن الداخلي والقوات المسلحة. كذلك أقر البرلمان الروسي تشريعًا ينص على أحكام بالسجن تصل مدتها إلى 15 عامًا بسبب الأفعال التي تُرتكب في الحرب ومن بينها الاستسلام، ويُعاقَب الجنود على الاستسلام الطوعي والنهب بالسجن لمدة 10 سنوات و15 عامًا، مع إدراج التعبئة والأحكام العرفية وأوقات الحرب ضمن الظروف المشددة للعقوبة، كما يعاقب القانون الفرار أثناء التعبئة أو حالة الحرب بما يصل إلى 10 سنوات، بينما يُعاقَب المعترضون على الخدمة العسكرية بالسجن لمدة تصل إلى 3 سنوات، هذا في الوقت الذي تم فيه إقرار تشريع آخر بمنح الجنسية للأجانب الذين يوقّعون عقودًا للخدمة في الجيش الروسي لمدة عام على الأقل.
دلالات كاشفة
بعد إعلان التعبئة في روسيا، كشف كثير من التقارير الإعلامية والسياسية عن نفاد تذاكر السفر إلى الدول التي لا يتطلب دخولها للروس الحصول على تأشيرات مسبقة، وتضاعفت مرات عدة أسعار تذاكر السفر إلى تركيا وأرمينيا وأذربيجان، في الوقت الذي رفضت فيه دول البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) استقبال الروس الفارين من التعبئة.
كما شهدت بعض المدن الروسية خروج مظاهرات رافضة ومنددة بالقرار، ورغم عدم وضوح كثير من التفاصيل حول حجم هذه المظاهرات وانتشارها، فإن هناك تقارير تتحدث عن اعتقال المئات من المتظاهرين في مدن روسية عدة، كما قام مئات الآلاف بالتوقيع على عريضة ضد إعلان “التعبئة الجزئية أو حتى الشاملة”، رغم أن هذا التوقيع قد يعرّضهم لعقوبة تشويه سمعة الجيش الروسي التي تصل إلى السجن لمدة تبلغ 15 عامًا.
ومع ما تكشفه هذه الأمور من دلالات، فإن الدلالة الأهم هي عجز نظام بوتين عن حسم معاركه في أوكرانيا، وفشله في تحقيق الأهداف التي سعى إليها رغم مرور أكثر من سبعة أشهر على بدء عدوانها على أراضيها، وما إعلان التعبئة ـأيًّا كان مستواه شاملًا أو جزئيًّاـ إلا تأكيد لهذا الفشل، وأن استمرار المعارك وعدم القدرة على الحسم قد يؤدي -على المديَين المتوسط والبعيد- إلى استنزاف قدرات النظام الروسي، بما يهدد ليس فقط استقراره ولكنْ بقاءه من عدمه.