صدفة الجغرافيا.. في التعاسة والسعادة!

صدفة الجغرافيا تجعل إنساناً مُحكوماً عليه بالعذاب في حياته لأنه وُلد في بلد لا يُقّدر الإنسان، ولا يعرف له قيمة، ولا يوفر له حتى الحد الأدنى من الحياة الآدمية.
ونفس الصدفة تجعل إنساناً آخر يعيش في بلد آخر يستمتع بحياته، ويحصل على كافة حقوقه، ويكون حراً كريماً صاحب إرادة في صنع حاضر ومستقبل البلد الذي ولد فيه ويحمل جنسيته.
الإنسان لا يختار مكان ولا تاريخ مولده، كما لا يختار كيف وأين تكون نهايته، أما ما بينهما في سجل الحياة فكل ما فيه بإرادته الحرة.
التعاسة والسعادة ليستا قدراً محتوماً لكل واحد في الضفتين، إنما هى فعل الإنسان ذاته لنفسه، وفعل غيره له عندما يتحكم فيه ويفرض الوصاية عليه ويحيطه بأسوار عالية من الخوف والرهبة والقيود.
التحرر من الخوف
الإنسان الحر ينجح في كسر القيود والأسوار ويتحرر من الخوف ويُسقط الترهيب ويمتلك ناصية إرادته ولا يتوانى في الدفاع السلمي عن حقوقه إذا شعر أن هناك بوادر تهديد لما تّحصل عليه من حقوق ومكتسبات.
صدفة الجغرافية، وطبيعة الشخص، يجعلانه تعيساً أو سعيداً، وإذا كان يصعب تغيير الجغرافيا فإن الطبيعة البشرية مجبولة على التغيير بما للإنسان من عقل، ودور هذا العقل هو التفكير، وتوعية الشخص بكل ما يدور حوله لمعرفة الصحيح من الخاطئ وإدراك ما هو في صالحه وما هو عكس هذا الصالح.
لكن أن يكون العقل معطلاً أو ساذجاً أو قاصراً أو مُستسلماً أو مُنقاداً فهذا جزء من الطبيعة الشخصية التي تجعل الإنسان بلا فاعلية ويصير وجوده في الحياة كما الغياب عنها.
لهذا تلعب منظومات فرض الوصاية والتدجين بنشاط مكثف وخبث عميق على العقل لتعطيله عن العمل والحركة أو غسله وتطويعه أو نزعه من الرأس لو استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
العقل المفكر النقدي
أما العقل لوحده فهو غير كاف للفهم والإدراك كما يجب، إنما يجب أن يكون مقروناً بالتفكير ليكون عقلاً مفكراً، وهذا أيضاً غير كاف إذ يجب أن يُضاف إليه فضيلة النقد ليكون عقلاً مفكراً نقدياً، ولو كان تشكيكياً فإنه هنا يريد أن يصل إلى جوهر الحقيقة الناصعة أو يقترب منها دون قدرة لأحد في التأثير عليه أو خداعه أو تضليله بأساليب بارعة في الخبث والدهاء.
من لا يستخدم عقله ولا يفكر به ولا يفرز الحقيقة من الزيف فقد ظلم نفسه إذ سيعيش ويرحل ولن يكون له ذكر وقد يورث من هم في رعايته نفس خصاله السلبية الاستسلامية ومن هنا تتوالد أجيال تكون مجرد أرقام وأجساد تتحرك وتملأ الفراغات في الشوارع والطرقات والمساكن وهى كلها مثل حصيد هش تذروه الرياح.
الاختيار والإجبار.. والوصاية
الإنسان وحده يمتلك قدره لتغييره أو يبقى غارقاً في ادعاء أنه مجبور عليه، وإذا أتيحت له فرصة الخروج من حالة الجمود إلى التغيير فلا يجب أن ينتكس أو يرتد على عقبيه.
ما يجوز على الفرد الواحد، يجوز على الجماعة من الناس، وعلى المجتمع كله، الفارق أن الفرد التعيس والمجتمع التعيس لديهم تسليم بالواقع والانحناء أمامه انتظاراً لأقدار عليا تتدخل لأجله، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، هذا قانون نهائي وحاسم ولا قانون بعده.
منظومة الوصاية الفاقدة لأي سند من سياسة أو أخلاق أكثر ما تعاديه هو فكرة التغيير والإصلاح، لأن فيهما نهايتها وزوالها، وهذا ما حدث في مجتمعات الأفراد السعداء، عندما سقطت الوصاية المصطنعة صار الإنسان شريكاً في بلده يحصل منه على نصيبه من خيراته ويقدم له بالمقابل ما عليه من التزامات وحقوق، وصار البلد أو الوطن قريب الشبه من الشركة التي للكل فيها أنصبة متساوية ابتداء ثم تزيد لكل واحد مع الهمة والنشاط والكفاءة والعمل المبدع الخلاق، لكن لا أحد عموماً يجوع أو يمرض أو يشقى، فالوطن العادل يوفر الحد المعقول من العيش الكريم للجميع تأسيساً على مبدأ العدالة الاجتماعية.
شراكة الأوطان
في أوطان التعاسة يغيب معنى العدالة الاجتماعية ويغطي الضباب على قيمة المساواة، والوطن هو شركة يتحكم فيها الأوصياء وعليك أن ترضى بنصيبك ولو كان صفراً، ولن تفهم كيف يُدار الوطن الشركة، أو قد تفهم لكن ممنوع التعبير عما تفهمه أو تراه من استغلال أو انحدار.
نعم، الوطن معنى أسمى وأعظم من مفهوم الشركة، لكن القصد أنه شراكة لكل أبنائه فلا أحد فيه مميز على أحد أو له أسهم أكثر من الآخر إلا بجهده الحقيقي.
ويجوز أن نفهم الشركة هنا بمعنى مداخيل هذا الوطن وتكاليف وأعباء كل فرد فيه، وكما عليك أن تؤدي التزاماتك فإنه يصبح لك حقوق ومكتسبات.
مجتمع حر وآخر محاصر
الفرد السعيد في المجتمع الحر يمتلك مصيره ويصنع قدره ويختار من يدير شؤونه ويراقبه ويحاسبه لهذا تكون الأوطان شركات وشراكات ناجحة دوماً وإذا اعتراها بعض الخلل أو اقترب منها خطر فإن العلاج يكون سريعاً والنجاة محتومة ذلك أن الأفكار كثيرة والحلول متوفرة.
الفرد التعيس في المجتمع المحاصر المكبل يجري نزع كل عوامل القوة والفعل منه بشكل منهجي لتحويله إلى ركام ورماد، إنما غالباً هناك نار تحت الرماد.
هل ترون شخصاً في أي مجتمع كريم أو شبه كريم يغامر بحياته في البحر، أو البر عبر الجبال والأودية أو يرمي نفسه في الخطر باحثاً عن رغيف الخبز والأمان في بلد آخر؟ لا يحدث ذلك حتماً، لكنه دائم الحدوث في بلدان الوصاية رغم أن احتمال الموت أكبر من أمل النجاة.
قبل أيام مات غرقاً 94 عربياً في البحر المتوسط، هم كانوا موتى في بلدانهم فبحثوا عن الحياة في قارب للموت، وقبلهم مات ألوف وبعدهم سيموت ألوف بنفس الطريقة وهناك شعوب كاملة تعيش وهي في حالة موات.
لماذا تكون الصدفة الجغرافية قاسية إلى هذا الحد؟
لماذا الطبيعة البشرية قد تكون منسحقة إلى هذا الحد؟
لماذا منظومات الوصاية متسلطة إلى هذا الحد؟
أو الثلاثة معاً.