الطائفـية المقـيتة

توقفتُ طويلًا أمام لافتة رفعها أحد الشباب المتظاهرين بالعراق جاء بها: “أفضل حل للعراق، تعيين رئيس وزراء شيعي، أبوه سني، أمه مسيحية، متزوج كردية، مولود بإيران، درس بالسعودية، لديه جنسية أمريكية، يشرب بالليل ويصلي بالنهار”، تذكرت على الفور واقعة في تسعينيات القرن الماضي لشاب مصري، خريج في الجامعة، لديه خبرة عمل في مجاله بعد التخرج تزيد على عشرة أعوام، كان يملأ استمارة سيرة ذاتية بإحدى السفارات الخليجية، تتضمن الاسم، والديانة، وللأسف المذهب أيضا، وجدته يسألني: يعني إيه مذهب يا أستاذ؟
وعلى الرغم من دهشتي للسؤال، فإنني لن أنسى كم سُررت كثيرًا لسبب واحد، وهو أن هذا الشاب كغيره من ملايين الشباب في مصر آنذاك، لم يشغلوا أنفسهم بهذا النوع من الثقافة، ثقافة المذاهب، التي تحولت إلى ثقافة تشدد وتطرف بامتياز، وإن شئت قُل إرهاب في بعض الأحيان، إلا أن هذا الوضع يبدو أنه لم يستمر طويلًا، نتيجة السفر والعمل ببعض دول المنطقة، التي تلعب فيها المذاهب دورًا بارزًا في الحياة العامة والخاصة على السواء، مما كان له أثره على اهتمامات الكثير من العائدين إلى أوطانهم شكلًا وموضوعًا للأسف، على الرغم من أن معظمهم حصلوا على قسط وافر من التعليم.
الوحدة 8200 الإسرائيلية تذكي الصراع
أصبحنا نرى في عالمنا العربي عمومًا، ما يشبه المبارزة بين هؤلاء وأولئك بمواقع التواصل الاجتماعي على مدار الساعة، تغذيها الوحدة العسكرية 8200 الإسرائيلية المتخصصة في إذكاء الصراعات بين الشعوب العربية بأسماء عربية مستعارة على الجانبين، حتى خلال مباريات الكُرة، فضلا عما يجري في العديد من الساحات على الأرض، من مبارزات حيّة بكل أنواع الأسلحة، استنادًا إلى فتاوى شرعية مبتورة، وانطلاقًا من مواقف سياسية موتورة، أصبحنا نسمع عن الهلال السنّي، والمحور الشيعي، والجيش العلوي، وما شابه ذلك من مسميات فرضت نفسها على ثقافة ذلك الشاب المصري الآن، بل على كل شباب المنطقة.
يحدث ذلك في الوقت الذي يجد فيه الإنسان المسلم نفسه مطالَبا شرعا بالتعامل بالحسنى مع أتباع الديانات الأخرى، وبحكم الواقع مع اللادينيين، وغيرهم من عبدة الشمس والبقر والأوثان، وهو الأمر الذي كان يجب معه إعمال العقل والمنطق حتى لا تصل الأوضاع إلى هذا الحد من سفك الدماء، وانسداد الأفق السياسي في أكثر من قُطر عربي، وكأن النظم الدكتاتورية السابقة كانت تشكل، كما يشاع الآن، حائط صد مع مثل هذا النوع من التطرف الذي فرض نفسه بمجرد سقوطها هنا وهناك.
لا يجوز أبدًا أن نضع رؤوسنا في الرمال ونحن نتحدث عن مثل هذه الأزمات، أو قُل الكوارث التي يعاني منها الشارع العربي حاليًّا، بفعل منظومة دينية متطرفة أحيانًا، ومنظومة سياسية غير مستقرة في معظم الأحيان، وكلا المنظومتين تلتقيان في نهاية الأمر على هدف واحد هو الاستفادة الشخصية مما جرى ويجري، من دون وضع مصلحة الوطن أو المواطن في الاعتبار.
اختفاء النخب السياسية والثقافية والدينية
هنا تطرح الآية الكريمة (78) من سورة هود نفسها {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} كسؤال استنكاري يخاطب ضمائر كل النخب السياسية والثقافية والدينية بالعالمين العربي والإسلامي، علّها تنتفض بفتاوى شرعية حقيقية، ومواقف سياسية نزيهة، ومواثيق ثقافية تستند إلى المنطق والأخلاق بالدرجة الأولى، وكسر حالة الصمت الحالية، التي لا تستند إلى أي مبرر من أي نوع، سوى الرضوخ للأمر الواقع، وهو أنه لم يعد يوجد هذا الرجل الرشيد التي تبحث عنه الآية.
في المقابل سوف نجد المنتديات العربية تضج بكثير من الأصوات العالية، وأجهزة التلفاز تعج بكثير من أصحاب الحناجر القوية، والشارع العربي يئن من الإفتاء، إلا أن كل ذلك بدا أنه لم يصل بعد إلى سن الرشد الذي يعنيه القرآن الكريم، وهو أمر مخجل إلى أبعد حد، في ضوء ذلك الذي يجري على الأرض من سفك دماء على مدار الساعة، في أكثر من عاصمة، وأكثر من بقعة، بخلاف ذلك الإضمار أو التنمر الكامن تحت الرماد، الذي يمكن أن ينفجر بين عشية وضحاها.
لم أُرد التطرق إلى حالات بعينها، ولا إلى أشخاص بذواتهم، ولا إلى عواصم محددة، حتى لا نُحسب على أحد، ولا يُفهم أننا نستهدف أحدًا، وحرصًا أيضًا على حياد هذا الموقع الذي سمح بنشر المقال، إلا أن الأمر جد خطير على كل المستويات، وينذر بمزيد من التصعيد على كل الجبهات، على الرغم من حالة التوتر التي يمر بها العالم بشكل عام، وتردي الأحوال الاقتصادية بشكل خاص، وهو الأمر الذي يجعلنا نمعن في الإلحاح على أولي الأمر من سياسيين ورجال دين وغيرهم لتدارك الموقف قبل فوات الأوان، علّ الذكرى تنفع المؤمنين.
(ملحوظة: تعمل الوحدة 8200 العسكرية الإسرائيلية على ثمانية محاور هي، الرصد، والتنصت، والتصوير، والتشويش، والتفكيك، والاعتراض، والتحليل، وبالتزامن مع كل ذلك: إشعال الأزمات، وهذه الوحدة أسسها جهاز “أمان” التابع للموساد، بهدف التعامل مع الأهداف العربية، ليس داخل الدول العربية فقط، بل حول العالم، وقد لعبت دورًا كبيرًا على مدى أكثر من 30 عامًا منذ نشأتها، في إذكاء الفتن بين الشعوب، والوقيعة بين الأنظمة، وحققت في ذلك نجاحات كبيرة، جعلتها من أهم الأجنحة العسكرية هناك، حيث يعمل بها آلاف المجندين من حملة المؤهلات المتخصصة).