قصة “أورهان باموك” أول تركي يفوز بنوبل في الآداب

يعد أورهان باموك من أشهر الشخصيات الأدبية التي ذاع صيتها، وفرضت نفسها بقوة على الساحة الأدبية التركية، وهو أول أديب تركي يحصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2006 عن مجمل أعماله ورواياته، التي يعتمد فيها على إعادة بناء أحداث تاريخية مفصلية، ورؤيتها بصورة مغايرة من وجهة نظر مختلفة عما هو شائع، الأمر الذي يحول هذه الأحداث إلى قطعة فنية متعددة الألوان والأشكال ترصد بدقة بالغة عملية ولادة تركيا الحديثة بكل أساطيرها وتناقضاتها، متبعا في ذلك أسلوب تحليل السلوكيات، وصولا إلى إيضاح النتائج التي أفرزتها بصورة مغايرة تماما لما يتم تداوله بشأنها، وما رسخ في الأذهان باعتباره حقيقة تاريخية لا تحتمل التأويل.
ولطريقته هذه في الكتابة يصنف صاحب جائزة نوبل في الآداب على أنه واحد من أهم الأدباء المعاصرين في تركيا، وقد ترجمت أعماله الأدبية إلى 34 لغة، وتقرأ رواياته في أكثر من 100 دولة. لم يعرف الجمهور التركي باموك في بداياته المهنية، فحينما كتب أولى رواياته تحت عنوان ” جودت بك وأولاده” عام 1979 ظلت حبيسة درج مكتبه لسنوات عديدة، إذ لم يجد ناشرا واحدا يقبل طباعتها، ورغم ذلك حصلت الرواية على جائزة الصحافة بعد أن قررعام 1982 طباعة ألف نسخة منها على نفقته الخاصة، وفي عام 1985 أصدر رواية “القلعة البيضاء” التي لم تلق الاهتمام المطلوب من جانب جمهور القراء، ليصدر بعدها روايته “الكتاب الأسود”، التي تعد أكثر روايات باموك رواجا بين الأتراك، حيث يتابع فيها رحلة رجل يبحث بلا هوادة عن امرأة طوال أسبوع كامل في إسطنبول المكسوة بالثلوج والأوحال.
صاحب نوبل والانتظار لسنوات بين القبول والرفض
وظلت الأمور تتأرجح بين الرفض والقبول لرواياته من جانب أصحاب دور النشر حتى ظهرت له رواية “اسمي أحمر” التي ذاع صيتها في عالم الأدب، وهي الرواية التي تتناول قصة المواجهة بين الشرق والغرب في ظل الدولة العثمانية، من خلال التركيز على الصراع الديني وحكم التصوير والرسم في الإسلام وفي ثقافات الشعوب الأخرى ليتحول الأمر إلى صراع بين الأصالة والتجديد من خلال الحديث عن فن المنمنمات أبرز الإبداعات الفنية الإسلامية في هذه الفترة وبين الرسوم الشخصية (فن البورتريه) الذي كان سائدا في أوربا.
ليبدأ أورهان باموك مرحلة جديدة في حياته بوصفه روائيا وأديبا مع صدور روايته “الحياة الجديدة” التي تجاوزت مبيعاتها مئة وألف نسخة، ويذيع صيته في الأوساط الأدبية، ويتم تسليط الضوء على كتاباته الصحفية ورواياته الأدبية، ويبدأ جمهور القراء رحلة البحث عن إبداعاته التي لم يلتفت إليها سابقا.
ولد أورهان باموك في السابع من شهر يونيو/حزيران عام 1952 بمدينة إسطنبول لعائلة ثرية، درس الهندسة المعمارية في بداية حياته العلمية، لكنه تركها بعد ثلاث سنوات، ثم عاد ودرس الصحافة قبل أن يقرر التحول إلى العمل في الأدب وكتابة الروايات.
الاهتمام الغربي وترجمة أعماله ساعد على انتشار رواياته
وقد لقيت مؤلفاته اهتماما غربيا كبيرا، وترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات بفضل النهضة الأدبية والثقافية التي شهدتها تركيا خلال السنوات الأخيرة، وزيادة تأثير وسائل الإعلام على توجهات الناس واهتماماتهم الفكرية، إذ تم تسليط الضوء على كتابات باموك لكونها تعكس الواقع اليومي للإنسان التركي الذي يعاني تمزقا بين انتماءاته الحضارية والتاريخية وبين مفردات حياته اليومية المغلفة برداء من المظاهر الغربية، وما يصاحب ذلك من جدل داخلي يسبب أرقا دائما، وصراعا محتدما لا يزال مستمرا بين من يكون وكيف يصبح. وقد استطاع باموك بأسلوبه الأدبي الخاص ولغته الفريدة التعبيرعن ذلك الصراع الداخلي في الشخصية التركية متحديا المنطق، ومتحدا بصورة غريبة مع هذه الروح وتلك التعقيدات النفسية التي يعيشها الأتراك على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم الأيدولوجية، ومواقفهم الشخصية من التغييرات التي تمر بها بلادهم.
“ثلج” والتأريخ للتحولات السياسية داخل تركيا
وفي هذا الإطار تأتي روايته التي تحمل عنوان “ثلج” لتؤرخ للتحولات السياسية التي تعيشها تركيا بعد انقضاء عقدين من الهيمنة الماركسية على عقلية النخبة التركية، والتطورات التي شهدتها البلاد بعد أن حل الإسلاميون محلهم، واستعاروا الكثير من مفرداتهم الخطابية حتى يتمكنوا من توحيد الأمة التي تمزقت إلى أشلاء نتيجة مرحلة الاغتراب الطويلة، وحدة قوامها الروح الوطنية ومناهضة التدخلات الغربية في الحياة التركية، ومن هنا جاءت فكرة الرواية التي تتناول قصة مدينة معزولة عن العالم، في إشارة إلى تركيا، وتزيدها الثلوج عزلة، حيث يقع فيها انقلاب عسكري تعبيرا عن حجم التحولات التي تعيشها، والروح الجديدة التي أصبحت تهيمن على تركيا الشعب والدولة.
وفي هذه الرواية يطرح باموك قضايا التعصب الديني والصراع بين النظام السياسي ممثلا في الجيش والاستخبارات وبين الجماعات الإسلامية، حيث يتهم صاحب نوبل بكل جرأة الجيش والاستخبارات بافتعال الأحداث التخريبية المنسوبة للجماعات الإسلامية، واختراق هذه الجماعات واستدراجها لممارسة العنف، بهدف تبرير أعمال القمع والملاحقة والاعتقال التي يقومون بممارستها ضد كل من يخالفهم الرأي.
الصراع بين الإسلام والعلمانية يمثل إلهاما لكتابات باموك الأدبية
لقد كان الملهم لباموك في كتابة هذه الرواية صدور فرمان حكومي يحظر على الفتيات ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات، وهو ما أشعل جدلا واسعا وانقساما حادا في المجتمع التركي وحتى داخل الأسرة الواحدة، لينطلق من هذه النقطة تحديدا متتبعا وضع أسرة تركية تتكون من أب يساري الفكر، وابنتين إحداهما محجبة، والأخرى سافرة، رغم كونها زوجة لأحد القادة المحليين في حزب الرفاة الإسلامي، وهي في نفس الوقت صديقة لشاعر عاد حديثا إلى إسطنبول التي هجرها مدة اثني عشر عاما، وقد أوفدته صحيفته إلى مدينة كارس لمتابعة قصص الفتيات المحجبات اللواتي ينتحرن.
في هذه الرواية نجد تلك المشاهد المتشابكة والكثيرة عن الهوية والأفكار والموروثات التاريخية والذكريات المؤلمة وحالة الفقر والبؤس التي تعيشها مدينة كارس الجبلية الرابضة فوق قمة أناضولية تحت الثلوج، والتي تمثل رغم صغرها متاهة معقدة من العوالم المختلفة الرؤى والأفكار والأحداث، حيث الطلاب المتشددون المتطلعون إلى مثاليات أقرب إلى المستحيل، والأكراد المنشقون، والفقراء الذين يعانون، وبقايا شواهد التاريخ الأرمني للمدينة، وعيون الليل، وزوار الفجر.
ورغم اهتمامه الكبير بقضايا تركيا الاجتماعية والسياسية، فإن أروهان باموك يولي أهمية خاصة لقضايا العالم الإسلامي، ويتتبع تطوراتها بدقة بالغة علها تكون مصدر إلهام له في رواية من رواياته المقبلة.
