استراتيجية الأمن الألمانية بعد الحرب الأوكرانية

في عدد يناير/ فبراير 2023، نشرت مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) الأمريكية مقالاً موسعاً للمستشار الألماني أولاف شولتز، تحت عنوان: “كيف نتجنب حرباً باردة جديدة في عصر متعدد الأقطاب؟”، يمكن اعتباره وثيقة رسمية لاستراتيجية الأمن القومي الألمانية لمرحلة ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي كانت ألمانيا من أهم القوى الأوربية تعاطياً مع تطوراتها وتحولاتها وما فرضته من تداعيات وتحديات.
محددات الدور الألماني الجديد
من خلال مقال شولتز يمكن الوقوف على عدد من الأبعاد الأساسية التي تقوم عليها استراتيجية الأمن الألمانية الجديدة، والتي ستشهد تحولات جذرية مقارنة بما كان عليه الوضع قبل حرب أوكرانيا، ومن بين هذه الأبعاد حدود الدور الألماني، حيث ذكر شولتز نصاً: “تبذل ألمانيا كل ما في وسعها للدفاع عن وتعزيز نظام دولي قائم على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وتعتمد ديمقراطيتها وأمنها وازدهارها على ربط القوة بقواعد عامة مشتركة. وهذا هو السبب في أن الألمان عازمون على أن يصبحوا الضامن للأمن الأوروبي، كما يتوقع منا حلفاؤنا، وأن يقوموا بمد جسور التواصل داخل دول الاتحاد الأوروبي وأن يناصروا كل المساعي التي تستهدف إيجاد حلول متعددة الأطراف للمشاكل العالمية. وهذه هي الطريقة الوحيدة لكي تتجاوز ألمانيا الخلافات الجيوسياسية في عصرنا هذا بنجاح”.
وأضاف: “تستطيع ألمانيا وأوروبا المساعدة في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد دون الخضوع لوجهة النظر القاضية بأن العالم محكوم عليه بالانقسام مرة أخرى إلى كُتل متنافسة. ويتحمل تاريخ بلادي مسؤولية خاصة في محاربة قوى الفاشية والاستبداد والإمبريالية. وفي الوقت نفسه، فإن تجربتنا في الانقسام إلى شطرين خلال منافسة أيديولوجية وجيوسياسية تمنحنا بشكل خاص القدرة على تقدير مخاطر أي حرب باردة جديدة”.
وما ذهب إليه شولتز في هذا السياق يتنافى مع حقيقة أن ألمانيا في مرحلة من مراحل التاريخ المعاصر كانت إحدى قوى التدمير في العالم، فقد كانت طرفاً في حربين عالميتين طاحنتين في النصف الأول من القرن العشرين، كما شهدت بروز واحدة من أعنف الأيديولوجيات السياسية وأكثرها تطرفاً في العالم المعاصر، وهي النازية، وأن القيود التي تم فرضها على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بل وتقسيمها إلى دولتين بين معسكرين كان هدفها الحيلولة دون استعادة ألمانيا لقدراتها العسكرية، ومنعها من الانتقام للإذلال الذي تعرضت له في الحرب العالمية الثانية.
نهاية عصر وتحولات الاستراتيجية الألمانية
البعد الثاني الذي تطرق إليه شولتز في رؤيته، هو موقع ألمانيا في المعادلات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة، فذكر أنه “في نوفمبر 1989، تم إسقاط جدار برلين من قبل المواطنين الشجعان من ألمانيا الشرقية. وبعد 11 شهراً فقط من ذلك التاريخ، تم توحيد البلاد بفضل السياسيين ذوي الرؤية البعيدة ودعم الشركاء في كل من الغرب والشرق. وأخيراً، “يمكن أن ينمو معاً ما ينتمي معاً، كما قال المستشار الألماني السابق ويلي براندت بعد وقت قصير من سقوط الجدار (أي أن الدولة المتحدة يجب أن تحل محل ما كان عليه الوضع قبل ذلك من التمزق والانقسام”.
وأضاف: “هذه الكلمات لا تنطبق فقط على ألمانيا ولكن أيضاً على أوروبا ككل. فقد اختار الأعضاء السابقون في حلف وارسو أن يصبحوا حلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وكذلك أعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولم تعد عبارة “أوروبا كاملة وحرة”، على حد تعبير جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت، تبدو وكأنها أمل لا أساس له. وفي هذه الحقبة الجديدة، بدا من الممكن أن تصبح روسيا شريكاً للغرب بدلاً من العداوة التي كانت إبّان الاتحاد السوفيتي، ونتيجة لذلك، قلصت معظم الدول الأوروبية جيوشها وخفضت ميزانياتها الدفاعية، وكان منطق ألمانيا لماذا نحافظ على قوة دفاع كبيرة قوامها حوالي 500,000 جندي بينما يبدو أن جميع جيراننا أصدقاء أو شركاء؟”.
لكن هذه الأوضاع تحولت واختلف المنطق السائد ليس فقط الألماني ولكن الأوربي، وارتبط هذا التحول، من وجهة نظر شولتز بالتحولات في السياسة الروسية، فيقول: “بدأت الطموحات الاستبدادية والإمبريالية تُطل برأسها من جديد. ففي عام 2007، ألقى بوتين خطاباً عدوانياً في مؤتمر ميونيخ للأمن، ساخراً من النظام الدولي القائم على القواعد باعتباره مجرد أداة للهيمنة الأمريكية. وفي العام التالي، شنّت روسيا حرباً على جورجيا. وفي عام 2014، احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمّتها إلى أراضيها وأرسلت قواتها إلى أجزاء من منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، في انتهاك مباشر للقانون الدولي والتزامات موسكو الخاصة بالمعاهدات ذات الصلة. وشهدت السنوات التي تلت ذلك قيام الكرملين بتقويض معاهدات الحد من التسلح وقامات بتوسيع قدراتها العسكرية، وتسميم وقتل المعارضين الروس، وقمع المجتمع المدني، والقيام بتدخل عسكري وحشي لدعم نظام الأسد في سوريا. ورويداً رويداً، اختارت روسيا بوتين طريقاً أبعدها عن أوروبا وأبعدها عن نظام تعاوني سلمي”.
ألمانيا المدافع القوي عن أوربا
في مواجهة السياسات الروسية وما ترتب عليها من مخاطر وتحديات كانت ألمانيا حاضرة بقوة في قيادة الردع الأوربي للسياسات الروسية، وهنا يشير شولتز إلى أن ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون والدوليون في مجموعة الدول السبع الكبرى حافظوا على حماية السيادة والاستقلال السياسي لأوكرانيا، ومنع المزيد من التصعيد من قِبل روسيا واستعادة السلام في أوروبا والحفاظ عليه. وكان النهج المختار في ذلك هو عبارة عن مزيج من الضغط السياسي والاقتصادي المقترن بإجراءات تقييدية على روسيا مع استمرار الحوار.
لكن هذه السياسات من وجهة نظر شولتز لم تنجح في ردع روسيا وهنا يقول: “أدى الهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا في فبراير 2022 إلى ظهور واقع جديد جوهري، فقد عادت الإمبريالية إلى أوروبا، إذ تستخدم روسيا بعضاً من أبشع الأساليب العسكرية في القرن العشرين وتتسبب في معاناة لا توصف في أوكرانيا. حيث لقي عشرات الآلاف من الجنود والمدنيين الأوكرانيين حتفهم بالفعل؛ وأصيب الكثيرون أو تعرضوا لصدمات نفسية، واضطر ملايين المواطنين الأوكرانيين إلى الفرار من منازلهم بحثاً عن ملاذ آمن في بولندا ودول أوروبية أخرى؛ وقدم مليون منهم إلى ألمانيا”.
وأضاف: “لكن تأثير الحرب الروسية يتجاوز حدود أوكرانيا. فعندما أصدر بوتين الأمر بالهجوم، حطّم بنية السلام الأوروبية والدولية التي استغرق بناؤها عقوداً، وتحت قيادة بوتين، تحدّت روسيا أبسط مبادئ القانون الدولي على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، بوجوب التخلي عن استخدام القوة كوسيلة من وسائل السياسة الدولية والتعهد باحترام استقلال وسيادة ووحدة أراضي جميع الدول. وبصفتها كقوة إمبريالية، تسعى روسيا الآن إلى إعادة رسم الحدود بالقوة وتقسيم العالم، مرة أخرى، إلى كتل ومناطق نفوذ”.
التحولات الجذرية في الاستراتيجية الألمانية
البعد الثالث، في عقيدة شولتز السياسية، هي العمل وبحسم على ما أسماه “وقف الإمبريالية الانتقامية لروسيا”، وهنا قال نصاً: “يتمثل الدور الحاسم لألمانيا حالياً في تصعيد دورها كواحدة من موفري الأمن الرئيسيين في أوروبا من خلال الاستثمار في جيشنا، وتقوية صناعة الدفاع الأوروبية، وتعزيز وجودنا العسكري على الجناح الشرقي لحلف الناتو، وتدريب وتجهيز القوات المسلحة الأوكرانية”.
وبالتالي سيتطلب دور ألمانيا الجديد ثقافة استراتيجية جديدة، جوهرها، أولاً، ترسيخ الشراكة عبر الأطلسي والبناء والاستثمار في شراكات وتحالفات قوية في جميع أنحاء العالم، ثانيها، تخصيص صندوق خاص بحوالي 100 مليار دولار لتجهيز القوات المسلحة الألمانية (البوندسفير) بشكل أفضل، وتعديل الدستور لإنشاء هذا الصندوق، الأمر الذي يشكل تغييراً جذرياً في السياسة الأمنية الألمانية منذ تأسيس الجيش الألماني في عام 1955، وثالثها تعزيز الدعم السياسي والمواد والقدرات التي تحتاجها القوات الألمانية من خلال استثمار 2% من الناتج المحلي الإجمالي للميزانية العسكرية.
ورابعاً، إعادة النظر في مبدأ راسخ للسياسة الألمانية منذ عقود بشأن صادرات الأسلحة. فاليوم، ولأول مرة في تاريخ ألمانيا الحديث، تقوم بتسليم الأسلحة إلى أحد أطراف حرب دارت رحاها بين دولتين (روسيا وأوكرانيا). وشمل الدعم الألماني لأوكرانيا الأسلحة المضادة للدبابات وناقلات الجنود المدرعة والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات وأنظمة الرادار المضادة للبطاريات، وتدريب نحو 15000 جندي أوكراني، ومن بينهم لواء كامل (5000 جندي) في ألمانيا.
وخامسها، تعزيز ألمانيا وجودها على الجناح الشرقي لحلف الناتو، في ليتوانيا وتخصيص لواء كامل لضمان أمنها، كما تساهم بقوات في المجموعة القتالية لحلف شمال الأطلسي في سلوفاكيا، وتساعد في مراقبة وتأمين المجال الجوي في إستونيا وبولندا، كما شاركت البحرية الألمانية في أنشطة الردع والدفاع لحلف شمال الأطلسي في بحر البلطيق. وتساهم بفرقة مدرعة وأصول جوية وبحرية في نموذج القوة الجديد لحلف الناتو، بجانب شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35 مزدوجة القدرة.
وتأكيداً على هذه التوجهات الجديدة قال شولتز: “إن رسالتنا إلى موسكو واضحة للغاية، مفادها: نحن مصممون على الدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو ضد أي عدوان محتمل. وسنحترم تعهد الناتو الجاد بأن الهجوم على أي حليف واحد سيعتبر هجوماً على الحلف بأكمله. كما أوضحنا لروسيا أن خطابها الأخير بشأن الأسلحة النووية متهور وغير مسؤول.. وعلى بوتين أن ينتبه جيداً لهذه الكلمات”.
التوجهات الألمانية وحدود الفاعلية
تشكل ألمانيا بالفعل أهم القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الاتحاد الأوربي، وكانت أحد أهم أوراق قوة وبقاء واستمرار واستقرار هذا الاتحاد منذ بداياته الأولى عام 1951، ثم تحوله لاتحاد عام 1992، إلا أن دورها وصعودها وتحولاتها ترتبط بمتغيرين استراتيجيين من خارج أراضيها هما المتغير الأمريكي والمتغير الروسي، حيث كان لهذين المتغيرين التأثير الأهم على موقع ومكانة وحدود دور وفاعلية ألمانيا خلال القرن الماضي، ويرتبط بهما مستقبل الدور الألماني.
ورغم ما يفرضه هذان الدوران من معوقات إلا أن التحدي الروسي قد يدفع الولايات المتحدة لغض الطرف بل لدعم تحولات استراتيجية الأمن القومي الألمانية الجديدة، كما قامت بدعم تحولات استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة، ترسيخاً لمقولة “عدو الأمس صديق اليوم”، فكل من ألمانيا واليابان كانتا أهم خطرين يواجهان الولايات المتحدة بين 1919 و1945، لكنهما اليوم أهم حلفائها، وأهم أوراق قوتها في مواجهة روسيا واحتواء الصين.