الهجوم على الشّيخ الشّعراوي؛ لماذا الآن؟
“حافظوا على تحويل انتباه الرّأي العام بعيدًا عن المشاكل الاجتماعيّة الحقيقيّة وألهُوهُ بمسائل تافهة لا أهميّة لها.
أبقُوا الجمهور مشغولًا، مشغولًا، مشغولًا دون أن يكون لديه أيّ وقتٍ للتّفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى”.
هذا النّص ذكره المفكّر الأمريكي نعوم تُشومِسكِي في دراسته “استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور”، ونسَبَه إلى الوثيقة المسمّاة “الأسلحة الصّامتة للحروب الهادئة”.
استراتيجيّة مصارعة الثّيران
يكونُ الثّور الغاضب محبوسًا خلف بوّابة حديديّة صارمة، وبعدَ أن يتصاعدَ غضبُه إلى حدّه الأقصى تُفتَحُ له البوّابة لينطلق مسرعًا باتّجاه ذلك الكائن الصّغير؛ المُصارِع الذي يوقنُ أنّه لا يمكن أن يقوى على الوقوف في وجه الثّور الغاضب والهائج، فيحملُ على الفور منديلًا أحمر يوجهه ذات اليمين وذات الشّمال، يتشتّت انتباه الثّور فيصبح همّه المنديل الأحمر الذي لم يكن في لحظةٍ من اللحظات قضيّته، وفجأة يظهر مصارع آخر يحملُ منديلًا آخر، والثّورُ الغاضبُ قد تشتّت انتباهه وغاب تركيز غضبه وانشغل بالمناديل الحمراء الجانبيّة عن المُصارع الذي يسارعُ إلى غرس السّيوف واحدًا تلو الآخر في ظهره، ورغم ذلك يظل غضبُ الثّور موجهًا إلى المنديل الأحمر الهامشيّ حتّى يتمكّن المُصارعُ من هدّه والإجهاز عليه.
في الغرف المُغلَقة يجتمعُ المُصارِعُ الصّغير مع مناديله الحمراء، يكلّفُ أحد هذه المناديل بالظّهور على الشّاشة وعلى وسائل التّواصل الاجتماعيّ وشتم الشّيخ الشّعراوي ووصفه بأبشع الأوصاف.
يُستَفَزّ الجمهور الغاضب الذي لا يتعامل معه أبناء الغرف المغلقة إلّا بوصفه ثورًا غاضبًا هائجًا يجب إلهاؤه بالقضايا الجانبيّة والتافهة وتشتيتُ انتباهه وإضعاف تركيزه وحرف أنظاره عن المُصارع وما يفعله من كوارث.
تبدأ المعركة بين من يهاجمُ الشّيخ الشّعراوي رحمه الله تعالى ومن يتصدّى للدّفاع عنه، يحتدمُ النّقاش وترتفع الأصوات وتحمرّ العيون وتنتفخُ الأوداج، ويزيدُ المُصارع من مناديله الحمراء التي تظهر على الشّاشة لشتم الشّيخ الشّعراوي وتسخين المعركة الإلهائيّة.
ينشغلُ النّاس بمعركة الشّيخ الشّعراوي فتتوالى السّيوف التي يغرسها المصارع في ظهورهم؛ سيف تهاوي العملة، وسيف غلاء المعيشة، وسيف رداءة البنية التّحتية، وسيف الحريّات الغائبة، وسيف حوادث الجسور، وسيف جنون الأسعار.
إنّها عمليّة “الإدارة بالأزمة” من خلال افتعال الأزمات الوهميّة والجانبيّة والهامشيّة لينشغل النّاس بها عن أزماتهم الحقيقيّة التي لا تفتأ تفتك بهم صباح مساء.
إنّ الهجوم على الشّيخ الشّعراوي هدفُه بالدّرجة الأولى ليس الشّيخ الشّعراوي، بل هدفه افتعالُ قضيّة جانبيّة يتلهّى بها النّاس عن الكوارث الحقيقيّة التي يعاينونها ويعانونها، وينشغل بها العبادُ عن الجراح الحقيقيّة التي تثغب دمًا وقهرًا ووجعًا من كلّ أنحاء أجسادهم المُنهكة.
خاطبهم كأنّهم أطفال
جاءت الاستراتيجية الخامسة من الاستراتيجيّات العشرة لإلهاء الشّعوب التي ذكرها نعوم تشومسكي في دراسته “استراتيجيّات التحكّم في البشر والسّيطرة على الجمهور” بعنوان “خاطِب العامّة كأنّهم أطفال”.
جاء فيها: “إذا تمَّ التوجّه إلى شخصٍ مّا، كما لو أنّه لم يتجاوز بعد الثّانيةَ عشرةَ من عمره؛ فإنّه يتمّ الإيحاء له بأنه فعلًا كذلك؛ وبسبب قابليّته للّتأثر من المحتمل إذن أن تكونَ إجابته التّلقائية مفرغة من أيِّ حس نقدي، كما لو أنّه صادرٌ فعلًا عن طفلٍ ذي اثنتي عشرة سنة”.
إنّ المعركة الإلهائيّة التي تمثّلت في مهاجمة الشّيخ الشّعراوي اعتمدت على إقصاء الحسّ النّقدي وتغييب القدرة الجماهيريّة على التّعامل مع هذه المعركة بمنطق نقد أسبابها وأهدافها والمُراد منها ومآلاتِها، وذلك من خلال استفزاز عاطفتها الدّينيّة الصّادقة عن طريق مهاجمة أحد أهمّ أعلام الدّعوة وأكثرهم تأثيرًا وحضورًا عند المواطن العاديّ في القرن الأخير وهو الشّيخ الشّعراوي رحمه الله تعالى.
وسرعان ما يدخلُ الجمهور الغاضب في الاشتباك لأنّه مُستَفز أصلًا ومتوثّبٌ للمعركة ومتحفّز لها، ولكن تفريغ غضبه يتمّ بطريقةٍ كما لو أنّه تفريغ غضب طفلٍ مندفع يتمّ إقناعه باشتباكٍ آمن لتفريغ طاقته الانفعاليّة وفرط حركته وغضبه المتصاعد.
أتاحَ لها لسان حسودِ
على أنّه لا يمكننا إغفالُ حقيقةٍ ناصعةٍ في المعركة ضدّ الشّيخ الشّعراوي، وهي أنّ المعركة وإن كانت إلهائيّةً بالدّرجة الأولى فقد كشفت عن مدى الغيظ والحنق الذي تخفيه صدور القوم اتجاه أيّ رمزٍ إسلاميّ يؤثّرُ في النّاسِ على الحقيقة إحياءً وتنويرًا وتربية وغرسًا للهويّة في أركان المجتمع، كما كشفت عن مدى فطريّة ونقاء الجمهور الذي لا يقبل أن تُمس عقيدته وهويّته ورموزه الأصيلة.
إنّ غباء الحاسد، وفقدان الحانق أعصابَه؛ أعاد الشّيخ الشّعراوي إلى الواجهةِ فعاد النّاس إلى تداول أقواله ومقاطعه ودروسِه بشكلٍ يزيد من غيظ القوم وغضبهم وحنقهم؛ ولله درّ أبي تمّام وهو يصوّر المشهد بأبلغ صورةٍ إذ يقول:
وإِذا أرادَ اللّهُ نشرَ فضيلةٍ
طُويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورَتْ
ما كان يعرفُ طِيبُ عَرفِ العُودِ
لولا التّخوفُ للعواقبِ لم تزلْ
للحاسدِ النُّعْمى على المحسودِ