حكم المسح على الجوارب

حكم المسح على الجوارب (غيتي)

مسألة المسح على الجوارب من المسائل التي يكثر السؤال عنها في أيام الشتاء، نظرا لما يجده المرء من مشقة في البرد إذا خلع الجوارب عند كل وضوء، خاصة المسنّين.

والمشقة ليست قاصرة على البرد فقط، فقد يكون المرء في مكان يشق عليه فيه خلع الجوارب، فيصبح المسح عليها من التيسير ورفع الحرج، والحكم الفقهي للمسح على الجوارب (الجوربين) هو الجواز عند جمهور الفقهاء، فهو رخصة واردة في السنة وعليها عمل كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء، باختلاف بينهم في ضوابط وشروط هذه الرخصة، لكن ما لاحظته على الكثير ممن يستعملون هذه الرخصة، أنهم يتعاملون معها باعتبارها حكما ثابتا وليست رخصة مستثناة من الأصل، وهو الغسل بالماء.

والمفروض أن الرخصة تقدر بقدرها، وبالقدر الذي ترتفع به المشقة، ويندفع به الحرج لكني رأيت بعض الناس إذا قاموا إلى الصلاة  يمسَحون بدلًا مِنْ غسْل القدمين، في حال الصحّة، صيفًا وشتاءً، وفي البيت أو مكان العمل، بحاجة وبدون حاجة، في حالة الضيق وحالة الراحة، وقد زاد الأمر أني  استمعت إلى بعض العلماء المعاصرين، وقد أسقط حتى هذه الضوابط والشروط التي ذكرها الفقهاء المجيزين للمسح على الجوارب فأفتى بجواز المسح على الجورب وإن كان خفيفا، ولم يشترط لبسه على وضوء، وجعله بدون توقيت، ولا ينتقض بالخلع، ولم يقيده بمدة، بل هو باق حتى تتعفن القدمان على حد قوله.

وهذا كلام غريب بعيد عن القواعد الأصولية التي بني عليها هذا الحكم وبعيد عن المقاصد الشرعية لأحكام الطهارة في الإسلام، فأردت أن أحقق هذا الأمر في هذا المقال في ضوء الضوابط الأصولية لهذه الرخصة والمقاصد الشرعية من تشريع الطهارة في الإسلام، وأن أبين بعض القواعد العامة في هذا الموضوع.

قواعد وشروط المسح على الجوارب

أولا: الأصل في الطهارة أن تكون بالماء، ولا يجوز العدول إلى غيره إلا بسبب

فالماء هو الأصل في الطهارة سواء في الوضوء أو في الغسل لقوله تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ} (الأنفال: 11)، وقوله سبحانه وتعالى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (الفرقان: 48)، فالماء هو الأصل في الطهارة لأنه مزيل ومنظف للنجاسات والأقذار، وعليه صلاح حياة الإنسان، وقد جعل الله في الماء بركات ينبغي أن يحرص الإنسان على أن ينالها وتناله، خاصة إذا كان مقبلا على العبادة، فإذا فقد الماء أو تعذر استعماله لمرض أو لغيره فمن رحمة الله بعباده أن رخّص لهم في الانتقال إلى بدل يقوم مقام الماء، حتى لا يفوت على المؤمن فضل  العبادة، قال تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6)، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِن الصَّعِيد الطّيب وضوء المُسلم وإِنْ لم يجد الماء عشر سِنين”.

ويوضح حكيم الإسلام الإمام الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة بعض الحكمة في ذلك فيقول “لما كان من سنة الله في شرائعه أن يسهل عليهم كل ما يستطيعونه، وكان أحق أنواع التيسير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل؛ لتطمئن نفوسهم ولا تختلف الخواطر عليهم بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرة واحدة، ولا يألفوا ترك الطهارات، أسقط الوضوء والغسل في المرض والسفر إلى التيمم، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء من الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل، وحصل له وجود تشبيهي أنه طهارة من الطهارات، وهذا القضاء أحد الأمور العظام التي تميزت بها الملة المصطفوية من سائر الملل”.

فالأمة الإسلامية تميزت من بين سائر الأمم بالنظافة، فأول باب من أبواب الفقه عندها الطهارة والمسلم فيها يتعهد أمور النظافة لبدنه ولملابسه ولمكانه خمس مرات يوميا، وهو الوضوء وهو شرط لصحة الصلاة فضلا عن وجوب الغسل عند الجنابة واستحبابه في سائر الأوقات.

ومن هنا نقول إن العدول عن الماء في باب الطهارة لا يكون إلا لحاجة أو لعذر وليس أصلا، والحاجات والضرورات والأعذار تقدر بقدرها وعلينا ألا نتوسع فيها على حساب الأصل.

ثانيا: المسح على الخفين غير المسح على الجوربين (الجوارب)

والخف هو الحذاء الذي يلبس في الرجل من جلد رقيق يكون خفيفا على القدم، ومن هنا سمي خفا، ويكون ساترا للكعبين فأكثر، فهو مثل الجوارب غير أن الجوارب لا تكون من جلد بل يمكن أن تكون من قماش أو قطن أو صوف أو غيرهما. وحكم المسح على الخفين (النعلين) جائز لا خلاف بين العلماء فيه ولم يكن بين الصحابة خلافٌ في جواز المسح على الخفين كما يقول ابن المبارك؛ فقد ثبت بالتواتر عن أصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مسح على خفيه وقد نقل ابن المنذر الإجماعَ على جوازه، فهو جائزٌ في الحضر والسفر، للرِّجال والنِّساء.

لكن التكييف الفقهي له أنه رخصة والرخصة هي استثناء من الأصل الذي هو الماء والعلماء متفقون على جواز المسح على الخفين، لكنهم  يختلفون في أحكام المسح على الجوربين (الجوارب)، وهم في اختلافهم هذا بين مضيق ومتشدد مثل المالكية الذين وصل الحكم عندهم إلى حد المنع؛ إذ اشترطوا في جوازه أن يكون بنفس مواصفات الخف، أي أن يكون مصنوعا من الجلد، وساترا لمحل الفرض، في حين أن الجمهور يجيز المسح على الخفين وإن لم يكونا مصنوعين من الجلد ما داما ساترين للفرض، ولا ينفذ الماء من خلالهما، أما الحنابلة فهم أكثر الفقهاء تساهلا وتيسيرا ويذهبون إلى استحبابه وأنه إن تحقق مناطه يكون أفضل من الغسل.

ثالثا: نظرة إلى أدلة الفقهاء في مسألة المسح على الجوارب

فإذا ألقينا نظرة سريعة على أقوال الفقهاء في هذه المسألة فسنرى أن المالكية هم أقواهم دليلا، والجمهور هم أقربهم إلى مقاصد الشريعة في الطهارة، فمن جهة الدليل فالمالكية أقوى دليلا في منع المسح على الجوارب؛ إذ لا يجوز القياس على الخفين لأن المسح عليهما استثناء من أصل ورد بالنص، وما كان استثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره، كما أن الآثار التي استدل بها الجمهور لا ترقى في صحتها إلى مستوى الآثار التي وردت في المسح على الخفين، ولا تقوى على تخصيص آيات الوضوء فحديث الترمذي عن المغيرة بن شعبة “توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين” لم يتفق العلماء على صحته؛ إذ إن في سنده ضعفًا، وحتى لو صح الحديث متنًا لكان مشكلًا معنًى؛ لأنه جمع الجوربين مع النعلين فيكون المسح عليهما معًا وليس على الجوربين منفردين. يقول الإمام النووي في المجموع “لا يجوز المسح على الجورب مطلقًا، ولو صحّ حديث المغيرة بن شعبة، لحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه، جمعًا بين الأدلة”. والحديث الآخر هو حديث ثوبان رضي الله عنه قال: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، فأصابهم البَرْد فلما قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَرَهُم أن يَمْسَحوا على العَصَائِب والتَّسَاخِين”. وهذا الحديث رواه أبو داود وأحمد وصحَّحه الحاكم. والعصائب هي العمائم لكن معنى التساخين أنها الخفاف، فالحديث عن الخفين وليس الجوربين.

ورأي الجمهور أقرب إلى مقاصد الشريعة فآية النساء وآية المائدة اللتين ذكرتا التيمم ذكرتا أنه كان من قبيل التخفيف رحمة من الله بعباده فآية النساء ختمت بقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}، وختمت آية المائدة بقوله تعالي {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فمن مقاصد الشريعة التيسير ورفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، ومن ثم ألحقوا المسح على الجوربين بالمسح على الخفين في الجواز، خاصة أن حديث ثوبان الذي ذكرناه آنفا قال إنهم أصابهم البرد فأمرهم الرسول بالمسح على العصائب والتساخين فكان ذلك من أجل مشقة وجدوها بسبب البرد وهو أمر متحقق في الجوربين.

 رابعا: المسح على الجوارب بين الرخصة والعزيمة

وأيًّا ما كان الرأي في أدلة كلا الفريقين فلا مكان هنا للترجيح، وليس من هدفنا بيان الرأي القوي من الضعيف، بل هدفنا بيان أن المسح على النعلين أو الجوارب  رخصة، وينبغي تناول الأحكام الخاصة به في دائرة الرخصة التي شرعت  للتخفيف على العباد، ومن القواعد المهمة عند الأصوليين المتعلقة بالرخصة أنه إذا تعارض أو تردد الأخذ بالعزيمة أو الرخصة ولم يغلب على الظن أحدهما كان الواجب الأخذ بالعزيمة؛ لأنه حكم أصلي كلي بخلاف حكم الرخصة فهي حكم ثانوي أو جزئي، وحكم العزيمة حكم راتب، وحكم الرخصة حكم عارض، فيقدم الراتب على العارض، والأصل هو البقاء على الأصل من العزيمة، والخروج عنه لا يكون إلا بسبب أو عذر فإذا زال العذر عاد الأمر إلى أصله.

وللإمام الشعراني كلام طيب في التردد بين العزيمة والرخصة أرجع فيه الأمر إلى أحوال المكلفين فقال “إن الشريعة المطهرة قد جاءت من حيث الأمر والنهي على مرتبتين: تخفيف وتشديد، لا على مرتبة واحدة، كما يظنه غالب الناس، ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للتكاليف، فمن قوي منهم خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا، أو المستنبط منها في مذهبه أو غيره، ومن ضعف منهم: خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشريعة صريحا أو مستنبطا منها في مذهبه أو غيره. فلا يؤمر القوي بالنزول إلى مرتبة الرخصة، مع قدرته على فعل العزيمة” ا.هـ.

وعلى هذا المنهج، تعرض الإمام النووي للترجيح بين المسح والغسل فقال: “واختلف العلماء في أن المسح على الخفين أفضل أم غسل الرجلين؟ فذهب أصحابنا إلى أن الغسل أفضل لكونه الأصل، وذهب إليه جماعات من الصحابة منهم: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو أيوب الأنصاري ـرضي الله عنهم- وذهب جماعات من التابعين إلى أن المسح أفضل، وذهب إليه الشعبي والحكم وحماد، وعن أحمد روايتان: أصحهما: المسح أفضل. والثانية: هما سواء، واختاره ابن المنذر” ا.هـ.

إذا علمنا ذلك فإنه يكون من غير المقبول إطلاق هذه الرخصة من كل القيود والشروط وفي كل الأحوال وكأنها الحكم الأصلي، كيف يكون مقبولا أن يظل المرء لابسًا جوربين في رجليه أيامًا من دون خلعهما إلا إذا تعفنت قدماه، ومن دون حاجة أو مشقة تدعو إلى ذلك، في أمة تميزت عن الأمم بالنظافة، وورد عن نبيها -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح أن الطهور شطر الإيمان.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان