الإنقاذ في الديمقراطية.. ولا خطة للتعافي غيرها!

رئيسة وزراء بريطانيا المستقيلة ليز تراس

 

“أنا آسفة، واعترف بأنني ارتكبت أخطاء “، هكذا قالت ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، وصاحبة أقصر فترة لرئيس حكومة في 10 داوننج ستريت، ورغم الاعتذار، والاعتراف بالأخطاء، والتراجع عن خطتها التي أثارت فوضى في الأسواق، وتراجع قيمة الاسترليني، بسبب التخفيضات الضريبية القياسية، ودعم الطاقة للأسر لمدة عامين، وتعويض ذلك بالاقتراض الحكومي الواسع، فإنها استقالت بعد 45 يوماً فقط من تشكيلها الحكومة، (6 سبتمبر 2022- 20 أكتوبر 2022).

ليز وحكومتها الخاطفة ليست صلب هذا المقال، إنما الديمقراطية التي تقوم بالتصحيح الفوري للأخطاء لتفادي كوارث قد يصعب حلها، أو يتم علاجها بكلفة ضخمة، أو يأخذ التصحيح وقتاً طويلاً، وهذا يمثل ضغطاً وإرهاقاً على الشعوب، فالديمقراطية نعمة سياسية، وهي الباب الوحيد للخروج الآمن من الأزمات والكوارث.

الإدارة الرشيدة للسياسة والحكم

أن يغادر صانع القرار منصبه سريعاً، أفضل وأكثر أماناً من المعاندة والبقاء حتى تتفاقم الأزمات وتزداد تعقيداً، فالمسؤول مهما كان موقعه في هرم السلطة جاء للخدمة العامة، واستمراره فيه مرهوناً بإدارة رشيدة للسياسة والحكم، وإخفاقه يتطلب رحيله في تداول سلمي للسلطة، كما حصل واختار حزب المحافظين في بريطانيا، ريشي سوناك، لرئاسة الحكومة بدلاً من ليز تراس، إذ شهد النصف الثاني من 2022 شهد سحب الحزب للثقة من تراس، وقبلها من بوريس جونسون، أي في غضون أشهر قليلة، استقال رئيس حكومة (جونسون)، وتم تكليف آخر واستقالت أيضاً (تراس)، ثم جرى اختيار شخص جديد لقيادة البلاد (سوناك).

وما لم يكن هناك نظام ديمقراطي في بريطانيا لم نكن نُذهل بهذا التتابع السحري في التغيير ليأتي صاحب الخطة الأكثر ملائمة لعلاج الأزمات الطارئة.

تهديد استقرار الدول

في نطاقنا الجغرافي لا أحد يستقيل، ولا أحد يتأسف ويقر بارتكاب أخطاء، ويقدم خطط علاج للمجتمع للنقاش العام مع التزام بتضمينها نتائج هذا النقاش للتصحيح والإصلاح.

هكذا الأمر في الأنظمة المنغلقة التي تتصور أن ما تفعله هو الحق المبين، وهنا يتهدد استقرار الدول بالفعل، وتفقد قدرتها على الصمود، وتتأثر استقلالية قرارها لارتهانها للخارج بالديون، وطلب المساعدة والعون منه، ويسود بين الناس اليأس والإحباط ويفقدون الأمل، وتتفشى السلبية.

وبريطانيا – ومثلها فرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا وكل الديمقراطيات غرباً وشرقاً- مهما واجهت مصاعب، فإنها تظل دولة مستقرة ثابتة بسبب عافيتها السياسية القادرة على انتخاب الأنسب دوماً للقيادة وإدارة الاقتصاد بحكمة ومسؤولية، فلا مناصب مُحصّنة لا يطالها التغيير، فرئاسة الوزراء أهم منصب بريطاني أكثر عرضة للتغيير من الحزب الحاكم نفسه.

قوة أمريكا من ديمقراطيتها

وأمريكا، تنبع قوتها من ديمقراطيتها، والملمح التالي كافٍ للدلالة على أحد مصادر عظمتها، دستورها يحدد فترتين فقط للرئاسة، مدة كل واحدة منهما 4 سنوات، وهي سنوات قليلة في عمر الدول، وهذا ليس عبثاً، إنما الهدف التغيير الدائم، وقطع الطريق على أي رغبة للاستبداد بالسلطة، وأن يبدأ الرئيس المنتخب العمل الجاد فوراً، ليثبت لشعبه أنه جدير بالثقة، ويستحق البقاء مدة ثانية، ومنذ صياغة الدستور لم يتم تعديل مادة الرئاسة، فهى نص من ثوابت الدستور العريق.

في مصر، دستور ما بعد يناير 2011 جعل الرئاسة فترتين، مدة الفترة 4 سنوات، مثل أمريكا، ودول أخرى، وتعديلات الدستور بعد يوليو 2013 لم تقترب من هذه المادة، لكن تعديلات 2019 غيرتها إلى 6 سنوات للفترة الواحدة، ومددت الفترة الثانية الحالية للرئيس عامين حتى منتصف 2024، كما يُتاح له الترشح مجدداً.

لم تصمد مادة أساسية في النظام السياسي المصري 5 سنوات، بينما يحافظ الأمريكان عليها منذ كتابة دستورهم قبل 236 عاماً، لذلك ينعمون بديمقراطية عتيدة صدت هجمة ترامبية انقلابية عليها قبل عامين.

وفي أمريكا، عندما يظل رئيساً ما في الحكم فترتين، ويحقق إنجازات مشهود لها مثل ريغان الذي سحب الاتحاد السوفيتي إلى الانهيار، أو كلينتون الذي حقق ازدهاراً اقتصادياً، فإن ذلك ليس أبداً مبرراً لينادي أحد بتعديل دستوري لبقاء الرئيس ليواصل الإنجازات مثلما يحدث في بلدان حكم الفرد، والفكرة الأساسية هنا أن التغيير عبر انتخابات حتماً يأتي بشخصيات وأفكار وخطط جديدة تضيف على ما سبق، فليس هناك مسار واحد  للعمل، ولا حاكم واحد يحتكر الحقيقة المطلقة، كل مواطن لديه خبرة الحياة ومنخرط في العمل العام يستطيع أن يكون حاكماً ناجحاً، والدول يتجدد شبابها وتتعزز قدراتها بتداول السلطة.

الحكومات المنتخبة.. وحكومات الموظفين

هناك أزمات عنيفة تواجه مختلف بلدان العالم، والفارق بين دول وأخرى أن الأنظمة المنتخبة تجتهد وتواصل الليل بالنهار للقيام بعملها على أتم وجه، فالحكومة الألمانية مثلاً كثفت جهودها لتأمين إمدادات الطاقة لشعبها هذا الشتاء، وكذلك تفعل عواصم أوربا بعد تأزم العلاقات مع روسيا وإيقافها ضخ الغاز بسبب دعم أوربا لأوكرانيا في الحرب.

الأنظمة المطلقة تعمل باعتبارها وريثة للسلطة، وكما لو كانت تؤدي وظيفة لساعات يومية محددة، ولا تقلق من سخط شعوبها عليها لمصاعب حياتهم حيث لا تنتظر مواعيد انتخابية لاختبار شعبيتها ومدى رضا الجمهور عنها، لهذا تسوء الأحوال.
والوضع المتردي والمأزوم في بلدان كثيرة تأكيد بأن غياب الحكم الديمقراطي الرشيد يعني بقاء هذه الدول تحت خط التخلف، ومواصلة سقوط شرائح اجتماعية تحت خط الفقر.

بالديمقراطية الجادة مهما كان إزعاجها لمن يحكم، ستُحل أزمات أي بلد، خلال زمن قياسي، ولو كانت معاناته بحجم الجبال، فهى الوصفة الصحيحة لضمان التعافي فالنهوض فالانطلاق.

مثلاً، رغم مشاكل الاقتصاد التركي وحرب روسيا وأوكرانيا حققت في 2022 صادرات بـ 254 مليار دولار، بزيادة 12% عن العام السابق عليه، وصادرات كوريا الجنوبية بلغت 684 مليار دولار، وهما بلدان نظامهما ديمقراطي، ولهذا نقول مطمئنين بأنه لا منقذ غير الديمقراطية.

المصدر : الجزيرة مباشر