فلسطين تكشف عمق الفجوة بين الشعوب والحكام

المراقب للشأن العربي، سوف يكتشف أن القضية الفلسطينية، لم يتغير قدْرها في الوجدان الشعبي العربي منذ عام 1948 حتى اليوم، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي بذلت للعبث بهذه الحالة، سواء من الداخل أو من الخارج.
فقد ظلت هذه القضية تتناقل من جيل إلى جيل، حتى في أوقات تراجع الزخم السياسي، أو هدوء وتيرة المقاومة، إذ كان الأقصى وفلسطين ولا يزالان طوال الوقت في صدارة المشهد الذي ساهم بلا شك، في التفاف الشارع العربي حول قضية عادلة، قوميًّا وإسلاميًّا، حتى ولو كانت الأنظمة الرسمية في معظم الأوقات على غير ذلك، لأسباب لا تخفى على أحد.
ربما كانت حرب 1973 هي آخر نقطة التقاء بين الأنظمة الرسمية والشعوب في هذا الصدد، ذلك أن حجم الدعم العربي شعبيًّا ورسميًّا لدول المواجهة كان بلا حدود، فقد كانت حتى ذلك الحين قضية العرب الأولى، إلى أن جاءت اتفاقية السلام مع مصر (كامب ديفيد)، ثم مع الأردن (وادي عربة)، ثم مع الفلسطينيين أنفسهم (أوسلو)، لتبدأ حالة من الترهل وانقسام الشارع إلى حد كبير، إلا أن هذا الانقسام لم يكن قط حول القضية ذاتها، وإنما كان ولا يزال يدور طوال الوقت حول جدوى السلام مع الإسرائيليين أو عدمه، وحجم ما يمكن أن يعود على العرب أو القضية من هذا السلام.
أوراق الضغط
الجديد في الأمر هو ذلك الخلط المخزي والمؤلم للأوراق، بدخول دول أخرى ليست من بين دول المواجهة على خط الاتفاقيات التي وصلت إلى حد التطبيع بلا أي مقابل، وبلا أي تنسيق مع الدول ذات الشأن، أو حتى مع أصحاب القضية، وهو ما أفقد القضية الكثير من أوراق الضغط، وجعل دولة الاحتلال تمعن في غيها واستهتارها حتى بالقرارات الدولية المتعلقة بالانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967، أو على أقل تقدير وقف بناء المستوطنات، أو الكف عن القتل بدم بارد في صفوف المدنيين الفلسطينيين وهدم منازلهم، وكانت المحصلة النهائية ذلك الموت السريري الذي أصاب قضية العرب الأولى في مقتل، وجعلها تتوارى عن سلم الأولويات دوليًّا وإقليميًّا بل عربيًّا كذلك.
وعلى الرغم من ذلك، فما تعود القضية بين فينة وأخرى إلى الساحة من خلال المقاومة الإسلامية هناك، ممثلة في جناحيها (حركتي حماس والجهاد)، إلا وينتفض الشارع العربي بالتأييد والدعاء، ذاك أنه لا يملك أكثر من ذلك، غير أن المواقف الرسمية -إلا ما ندر- لا تسير أبدًا مع اتجاهات الشارع، نتيجة وقوعها تحت ضغوط دولية، وأمريكية بالدرجة الأولى، استنادًا إلى الاعتقاد بأن هذه الأنظمة لا تستمد قوتها أو وجودها من الشارع، بقدر ما يكون ذلك من عواصم الغرب، وخصوصًا العاصمة الأمريكية، وهو الأمر الذي يؤكد تلك الفجوة العميقة بين المواطن وقيادته، كحالة عامة يتفرد بها عالمنا العربي.
الغريب في الأمر، هو أنه على الرغم من حالة ما يشبه الحرب الدائرة الآن، في معظم البلدان العربية، ضد التوجه الإسلامي والتيارات الدينية في المنطقة، خصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، فإن التأييد لحركتي حماس والجهاد في الشارع العربي -على الرغم من خروجهما من عباءة الإخوان- هو تأييد منقطع النظير؛ ذلك أن الحركتين حملتا على عاتقهما فريضة الجهاد والكفاح والنضال، في غياب المنظمات والحركات الفلسطينية التاريخية، مثل حركة فتح والجبهتين الديمقراطية والشعبية بشكل خاص، وغيرها من المنظمات التي دخلت مفرمة أوسلو.
الوقت لا يزال طويلا
والأكثر غرابة، هو أنه تم دمج معظم عناصر هذه المنظمات التاريخية فيما يعرف بقوات الأمن الفلسطينية، التي تضطلع بضرب ومواجهة عناصر المقاومة في الضفة الغربية بشكل خاص، حيث تهيمن السلطة الفلسطينية هناك، وحيث يقع ما يعرف بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، الأمر الذي جعل من حماس والجهاد معًا عنوانًا رئيسيًّا للمقاومة في الداخل، واحتلال الموقع الرئيسي للمعادلة في الخارج؛ مما اضطرت معه الأنظمة الرسمية العربية المعادية لجماعة الإخوان إلى التعامل معهما من أوسع الأبواب، باستضافة اجتماعات ومفاوضات واتصالات على أعلى مستوى -ولو على مضض- إيمانًا منها بأن أوراق المشهد بأيديهما، وأنه لا مفر من ذلك.
وربما كان تناول مواقع التواصل الاجتماعي، للأحداث الجارية في الأراضي المحتلة، تعبيرًا صادقًا عن الشارع العربي، في الوقت الذي تعد فيه وسائل الإعلام التقليدية، من صحافة وإذاعة وتلفزيون، معبرة بوضوح عن الموقف الرسمي، في كل بلد على حدة، والفرق شاسع في التعبير هنا والتناول هناك، وهو ما يؤكد مدى اتساع الفجوة بين هذه وتلك، إلا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئًا لدى القيادة السياسية في أي من هذه البلدان، وكأن موقف الشارع، أو الرأي العام الداخلي لا يعني صانع القرار بأي حال من الأحوال، وهو أمر لن تجده إلا في العالم العربي أيضًا.
فمنذ بداية الحوار مع دولة الاحتلال، لم يحدث على سبيل المثال، أن أجرى الرئيس السادات استفتاءً أو استطلاع رأي في صفوف المصريين، قبل اتخاذ قراره بالتوجه إلى القدس أو الدخول في محادثات كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الحال بالنسبة للمملكة الأردنية، أو حتى فيما يتعلق باتفاقية أوسلو بالنسبة للفلسطينيين، التي سبقتها مفاوضات سرية استغرقت عدة سنوات، ثم امتد هذا الوضع إلى الدول التي فتحت أجواءها وحدودها من أوسع الأبواب لاستقبال الإسرائيليين والعكس، حتى وصل الأمر إلى تطبيع العلاقات، والقيام باستثمارات مشتركة، وتبادل تجاري بأرقام كبيرة.
على أية حال، يبدو أن الوقت ما زال مبكرا للحديث عن إمكانية تطابق وجهات النظر الشعبية مع الرسمية في عالمنا العربي، في ظل انعدام الحياة السياسية المتحضرة التي تنطلق من دولة مؤسسات حقيقية، تستمد شرعيتها من المواطن أولًا وأخيرًا، وتحترم الدستور والقانون، وهو الأمر الذي إن تحقق يوما ما، فسوف تعي إسرائيل وغيرها أن المعادلات قد تغيرت، وأن القرار العربي أصبح وطنيًّا بالدرجة الأولى، بعد أن توحدت الشوارع مع القصور، وهو ما يعني أن هناك جامعة عربية حقيقية، بمنأى عن ذلك المبنى الذي يطل على نيل القاهرة، والذي لم يعد قادرًا على مجرد إصدار بيانات شجب، على غرار تلك التي كانت تثير السخرية والتندر ذات يوم.