الأرمن ولعبة استغلال الدول الكبرى للأقليات
لم تكن مشاهد الخروج الكبير للأرمن من إقليم ناغورني كارباخ إلا رسالة واضحة للأقليات التي تقبل أن تكون لعبة في أيدي الدول الكبرى، التي تستغل شعوبا وطوائف وكيانات عرقية وسياسية لخدمة أهدافها في صراع الهيمنة على الساحة الدولية، ورغم أن حكومة أذربيجان التي استعادت سيادتها على أرضها بعد ثلاثين عاما من الاحتلال تتعهد بحسن معاملة من يبقى من السكان ودمجهم فإن معظمهم قرر الفرار.
هرب مئة ألف أرميني من نارغورني كاراباخ، معظمهم جاء في بداية التسعينيات من القرن الماضي، بعد المذابح والتطهير العرقي للمسلمين عقب الاحتلال الذي جرى بدعم وحماية الروس، ولأنهم شاهدوا الإبادة والتهجير الحقيقي وبعضهم شارك فيما حدث فهم لا يثقون في وعود حكومة أذربيجان؛ خوفا من سكان الإقليم والمنطقة الذين سيعودون إلى أرضهم ومنازلهم ويزيد عددهم على مليون أذري.
العجيب أن الأرمن الذين خرجوا من كاراباخ بمحض إرادتهم وباختيارهم يزعمون أنهم تعرضوا للإبادة والتهجير، لكنهم لم يقدموا صورة أو مشهدا واحدا يؤكد هذا الاتهام، بل تنقل الفضائيات مشاهد المساعدات المقدمة من الجيش الأذري لطوابير الأرمن وحسن معاملتهم، ولهذا فإن الادعاءات لم تقنع أحدا خاصة في ظل وجود قوات حفظ السلام الروسية وقدوم بعثة أممية للتأكد من تأمين الخارجين من الإقليم.
استمرار البكاء في أرمينيا والعواصم الغربية خاصة فرنسا لن يغير الصورة التي أصبحت واضحة في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، فالذين يدعون المظلومية اليوم ويزعمون أنهم ضحية هم الجناة الذي احتلوا أرض غيرهم مدة 3 عقود، ومارسوا كل صنوف الظلم والإبادة لإقامة كيان طائفي لم يعترف به أحد، وهم لم يكتفوا بأن الدولة الأرمينية الأم قامت على المذابح أيضا واحتلال أرض الشعب الأذري ويواصلون التحريض.
الأرمن واستحالة عودة الماضي
كان الأرمن يعيشون في منطقة القوقاز والأناضول ولكن لم تكن لهم دولة كبرى مستقلة في يوم من الأيام، وإنما دولة تابعة للدول القوية المجاورة، وهذا طبيعي كأي منطقة تقع في نقاط التماس بين الحضارات الكبرى، وهذا الدور الوظيفي التابع كان هو السمة البارزة لشعوب أخرى كثيرة سكنت هذه المنطقة واختفت، قبل ميلاد السيد المسيح وبعده، وقبل ظهور الإسلام وبعده.
الحقيقة أنه بعد الفتوحات الإسلامية حافظ المسلمون على دولة الأرمن التي تكونت جنوب تركيا وتعاملوا معهم كأهل كتاب، ولم يزيلوا حكمهم كما فعلوا مع الوثنيين والممالك الأخرى، واستفاد القادة المسلمون من الخلاف المذهبي وكراهية الكاثوليك والأرثوذكس للأرمن فاحتضنوهم ووفروا لهم الحماية ما داموا يجنحون للمسالمة، ولكن رغم الوعود والتعهدات لم يتوقف قادة الأرمن عن استدعاء البيزنطيين والأوربيين لمحاربة المسلمين.
تاريخيا تعاون الأرمن مع الصليبيين الذين أسسوا ممالك صليبية في الشام، وتحالفوا مع المغول الذين اجتاحوا العالم الإسلامي، وشاركوا معهم في احتلال العراق، وأسس قادة الأرمن جيشا ساند المغول في دخول مدن الشام وشاركوا في هدم المساجد وارتكبوا الكثير من الفظائع، وظل ملوك الأرمن حلفاء للمغول في كل هجماتهم حتى أسلم أحفاد جنكيز خان وتركوهم، وبسبب الخيانات والمؤامرات ضد الحكم المصري قام المماليك بالقضاء على دولتهم نهائيا عام 1375م.
استغل الأرمن ضعف الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وراودتهم أحلام استعادة الدولة التي اندثرت منذ قرون، ولم ينتبهوا إلى أن الحلم أصبح مستحيلا، فالأرمن كانوا أقلية وسط الأتراك والكرد. وقد استخدم الروس وحدات من الأرمن في القوقاز وتركيا لهدم السلطنة العثمانية، ورغم الدعم الأوربي والروسي لثورتهم المسلحة فإنهم فشلوا.
أيًّا كان تفسير الصراعات التاريخية من جانب كل طرف فإن الحكمة المستخلصة هي أن الحروب الدينية بشكلها القديم انتهت، ومن الخطأ استمرار التفكير بعقلية القرون الوسطى، ولم يعد مقبولا تحريك الشعوب بأفكار الحروب الصليبية لأن طبيعة العالم اليوم اختلفت ولم يعد ممكنا صناعة خنادق جديدة على أسس دينية، ومن يريد ذلك مصيره الفشل.
التعاون أكثر ربحا
أكدت الحرب في كاراباخ أن اعتماد الأقليات على الدول الكبرى لسرقة أرض الغير لم يعد مجديا، فبقاء الحال من المحال، في ظل تراجع قوة الدول التي هيمنت على العالم خلال القرون الثلاثة الماضية، وفي ظل صعود بعض الدول الإسلامية وفي مقدمتها تركيا، التي امتلكت القوة العسكرية، ونجحت في التخفف من القيود المفروضة عليها من الحقبة الاستعمارية.
لم تعد الهيمنة الغربية مطلقة كما كانت في السابق، ومن يراهن على الحماية الغربية يخطئ في الحسابات، فالعالم اليوم في طريقه لتعدد الأقطاب وبروز قوى جديدة، وبسبب ضراوة حروب الزعامة وانشغال كل دولة قوية بنفسها فلا توجد دولة لديها الاستعداد للتضحية بأبنائها للدفاع عن أقلية عرقية أو طائفية أخرى، بل انقلب الحال، وأصبحت الدول التي كانت تحرك الأحداث من قبل تبحث عن مرتزقة يدافعون عنها.
لكن رغم كل ما جرى ووضوح الدرس في كاراباخ فإن بعض قادة أرمينيا يراهنون على أمريكا وفرنسا للاستمرار في طريق العداوة ومواجهة دول الجوار المسلمة بغير حق، ويريدون المراوغة في تنفيذ اتفاق 2020 الذي يقضي بمد خطوط التواصل البري بين أذربيجان وإقليمها المحاصر ناختشيفان من خلال ممر زنغيزور، ويحقق تواصل تركيا مع الدول التركية في آسيا الوسطى.
يفكر بعض الأرمن الذين تحركهم بعض الدول الغربية في خيانة الاتفاق، وبداية لعبة جديدة بطرد الروس من أرمينيا واستقدام قوات أمريكية وفرنسية ونشرها في جنوب البلاد، لمنع تنفيذ ممر زنغيزور، وهذا التفكير يضر الأرمن ضررا كبيرا وستكون خسارتهم أكبر من كارباخ، لكن يبدو أن العقل الطائفي الضيق لا يريد أن يستوعب أن الحرب مع أذربيجان لم تنته، وأنهم سيواجهون المرة القادمة ما هو فوق تصورهم وقدرتهم، ولن ينقذهم أحد كما حدث في كل مرة.