ليبيا.. من القاتل الحقيقي للآلاف في درنة؟
في عام 2003، استدعت الهيئة العامة للمياه في ليبيا مهندسين من سويسرا لإبداء الرأي بشأن عمليات الصيانة والإصلاح اللازمة لسدَّي درنة في الشرق الليبي. وكان فريق ليبي قد قام بمعاينة السدَّين في عام 1998، بناءً على مخاوف أبداها مسؤولون محليون من تدهور حالة السدين، ووجد أن هذه المخاوف في محلها، وأن هناك تشققات في هياكل السدين، اللذين تم بناؤهما في عام 1978 بمعرفة شركة يوغسلافية، ولم تتم عمليات الصيانة اللازمة لهما لأكثر من عشرين عامًا. وأوصى الفريق الليبي بالاستعانة بشركات متخصصة لإصلاح السدين.
استمر الأمر ست سنوات حتى جاء فريق من شركة سويسرية، مقرها مدينة لوزان، بقيادة المهندس ميجيل ستاكي، لفحص حالة السدين. وعقب دراسة جميع الجوانب الفنية، انتهى ستاكي إلى أن هناك ضغوطًا كبيرة على السدين، ولا بد من تخفيف هذه الضغوط بالقيام بخطوات عدة، من بينها دعم هياكل السدين، وإنشاء سد ثالث في وادي درنة، وتوسيع قنوات تصريف المياه من السدين لمنع وقوع فيضانات إذا ارتفع منسوب المياه خلفهما.
وحسب تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، استمر ستاكي في زيارة ليبيا، وتقديم مشورته للحكومة الليبية حتى عام 2008. حينها اعتقلت السلطات السويسرية هانيبال، نجل القذافي، بتهمة الاعتداء بالضرب على خدمه، الأمر الذي أغضب المسؤولين الليبيين بشدة، وقرروا عقاب سويسرا بوقف التعامل مع شركات سويسرية، من بينها الشركة التي كان ستاكي يديرها.
كما قامت السلطات الليبية بمصادرة شركة لتجارة الإسمنت في طرابلس، كان ستاكي شريكًا فيها، مما دفع المهندس السويسري إلى التوقف عن تقديم أي مشورات للحكومة الليبية، أو القيام بأي نشاط في ليبيا، أو حتى زيارتها خوفًا من الاعتقال.
كانت النتيجة أن السلطات الليبية أهملت أمر السدين بعد أن دخلت في دوامة من الصراعات السياسية مع الغرب. غير أنه مع تزايد المخاوف من سوء حالة سدي درنة، عادت السلطات الليبية إلى طلب المشورة من شركة استشارات هندسية إيطالية، أكدت بدورها ضرورة القيام بالخطوات ذاتها التي اقترحتها الشركة السويسرية.
ومن ثم، تم التعاقد مع شركة “آرسل” التركية للإنشاءات لتنفيذ المشروع الذي اقترحته شركة الهندسة الإيطالية. ولم تكمل الشركتان سوى أقل من 20% من حجم العمل المطلوب في السدين حتى قامت الثورة ضد نظام القذافي عام 2011، وتوقف العمل في المشروع، وهرب المهندسون الإيطاليون من موقع الإنشاءات خوفًا على حياتهم مع تردي الأوضاع الأمنية وانتشار الجماعات المسلحة.
تحذيرات من كارثة وشيكة لم تلق آذانًا صاغية
اللافت أنه خلال ثلاثة عشر عامًا، ما بين تاريخ أول تحذير ليبي من تشققات بهياكل السدين في عام 1998، مرورًا بتحذيرات شركتين أوروبيتين، سويسرية وإيطالية، من ضرورة العمل لدرء خطر الفيضانات، إلى توقف العمل في المشروع تمامًا عام 2011، توافرت للقذافي موارد مالية هائلة من عائدات تصدير النفط والغاز، لكنها لم تُستخدَم في مشروع شديد الأهمية وبالغ الخطورة، وهو إصلاح سدي درنة لإنقاذ شرقي ليبيا من كارثة، وكل هذا في بلد لم يتجاوز تعداد سكانه وقتها خمسة ملايين نسمة.
لم تلق التحذيرات من خطورة وضع سدَّي درنة آذانًا صاغية في عهد القذافي، ولم تلق أيضًا اهتمامًا يُذكر بعد سقوط القذافي، هذا رغم استمرار باحثين ليبين في رفع أصواتهم للتحذير من كارثة وشيكة، من بينهم المهندس والأكاديمي الليبي عبد الونيس عاشور.
نشر عاشور دراسة في جامعة عمر المختار الليبية عام 2022، بعنوان “تقدير عمق الجريان السطحي لحوض وادي درنة”، محذرًا فيها السلطات من عدم صيانة السدود. أوضح عاشور أن سد درنة الكبير، المعروف باسم “أبو منصور”، يمكنه استيعاب فقط ما يصل إلى 22.5 مليون متر مكعب من المياه. وأشار إلى أن المهندسين الذي قاموا ببناء سدي درنة، الكبير والصغير، في السبعينيات قللوا من حجم المياه التي يمكن أن تتجمع في خزاني السدين نتيجة هطول الأمطار.
وقال عاشور إن الوضع أصبح أكثر صعوبة نظرًا لأن الأرض في منطقة السدين خضعت لعملية تصحر، مما قلل من قدرتها على امتصاص الجريان السطحي للمياه. ولم يختلف عاشور مع توصيات المهندسين السويسريين والإيطاليين الذين سبقوه في فحص سدي درنة، خاصة ضرورة الإسراع بإنشاء سد ثالث ومسارات جانبية، لتخفيف ضغوط مياه الأمطار على السدين، وإلا فإن مدينة درنة ستكون معرَّضة بشدة لخطر الفيضانات.
تجاهلت السلطات تحذيرات عاشور، تمامًا كما تجاهلت عبر سنوات طويلة تحذيرات خبراء أوروبيين. الأسباب، كما أوردها عاشور في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، أن المسؤولين كانوا مشغولين بالخلاف السياسي، والصراع على الأموال، وإنفاقها على أغراض أخرى. وكانت النتيجة وقوع الكارثة التي فقد فيها عاشور نفسه عددًا من أقاربه.
الصراع السياسي منع وصول الأموال إلى درنة
ما يزيد الأمر تعقيدًا هو التاريخ السياسي القريب لمدينة درنة، إذ كانت المدينة أحد معاقل الثورة على نظام القذافي، وسيطرت عليها مجموعات إسلامية متشددة عام 2014، قبل أن تحاصرهم قوات خليفة حفتر وتنهي وجودهم في المدينة عام 2018، الأمر الذي جعل السلطات في الشرق أكثر حذرًا في التعامل مع درنة، وأقل حماسًا لتطويرها أو تحسين بنيتها الأساسية.
لكن على الرغم من كل هذه الأزمات، فقد سنحت فرصة لتوفير الأموال اللازمة لإصلاح سدي درنة، أو على الأقل القيام بخطوات عاجلة لدرء خطر الفيضانات، وإنقاذ درنة من كارثة وشيكة، عقب الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية في طرابلس عام 2021.
حينها خصصت الحكومة في طرابلس 335 مليون دولار لإصلاح البنية الأساسية في مدينتي بنغازي ودرنة، إذ كان من الواضح للمسؤولين في حكومة الوحدة أن بنية المدينتين قديمة ومتهالكة، وبحاجة شديدة إلى الإصلاح والتطوير، بعد عقود من التهميش أثناء حكم القذافي.
غير أن الشقاق بين المدير المسؤول عن عمليات إصلاح وتطوير البنية الأساسية في شرقي ليبيا، وحكومة الوحدة في طرابلس، منع وصول هذه المخصصات المالية إلى الغرض الأصلي لها، وهو إصلاح البنية الأساسية، وتكفل الفساد وسوء الإدارة بإنفاق الأموال في أغراض أخرى أقل أهمية.
لم يكن الخلاف بشأن تمويل المشروعات الكبرى في شرقي ليبيا أمرًا غريبًا أو مفاجئًا، نظرًا لانقسام السلطة في ليبيا بين حكومتين؛ حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس التي تعترف بها الأمم المتحدة، والحكومة المكلفة من البرلمان في بنغازي. على الأرض، تخضع مدن الشرق الليبي، بما فيها درنة، لسيطرة قوات خليفة حفتر، مما يعني أنه لا يمكن عمليًّا تنفيذ أي مشروعات في شرقي ليبيا لا تحظى بدعم هذه القوات.
كارثة الفيضانات.. نتيجة حتمية ومنتظرة
إذَن كانت هناك تحذيرات من جهات متعددة عبر سنوات طويلة من انهيار سدَّي درنة وتعرُّض المدينة للفيضانات، وتم تجاهلها. وكانت هناك عوائد هائلة توافرت للدولة الليبية من تصدير النفط والغاز عبر سنوات طويلة من حكم القذافي، ولم تُوظَّف لإنقاذ درنة من كارثة متوقعة. وكانت هناك مخصصات مالية في السنوات الأخيرة لإصلاح البنية الأساسية في درنة، لكنها أُهدِرت نتيجة الصراع السياسي. وعلاوة على كل ما سبق، هناك قوات عسكرية في شرقي ليبيا لا يمكن أن يتم أي مشروع إلا بموافقتها.
إذَن كان المسرح في شرقي ليبيا مهيئًا لكارثة وشيكة ومنتظرة، ثم جاء الإعصار دانيال ليكون المشهد الأخير في دراما حزينة كئيبة امتدت فصولها في شرقي ليبيا عبر عقود. جاء الإعصار بكميات كبيرة من الأمطار، لم يتحملها سدا درنة كما كان متوقعًا. وسرعان ما انهار السدان، واندفعت المياه المتراكمة خلفهما بقوة هائلة لتجرف مناطق كاملة من درنة إلى البحر، ووقع سيناريو الكارثة في 19 سبتمبر/أيلول 2023 بالصورة نفسها التي حذر منها الخبراء قبل عشرين عامًا.
وحسب تقارير مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فإن عدد ضحايا الفيضانات تجاوز 11 ألفًا في درنة وحدها. وتقول منظمة الصحة العالمية إنه تم تحديد هوية 4 آلاف شخص لقوا حتفهم في الفيضانات، وهناك 9 آلاف من المفقودين.
ومن ثم، لم يقتل الإعصار دانيال وحده الآلاف من أهالي درنة وغيرها من مدن الشرق الليبي، فقد مر الإعصار ذاته على اليونان وتركيا، ولم يسبب هذه الخسائر المروعة كما حدث في شرقي ليبيا. القاتل الحقيقي هو الإهمال المستمر عبر عقود طويلة، والفساد المستشري في أجهزة الدولة الليبية، وإهدار موارد ليبيا الهائلة في أوجه إنفاق أقل أهمية كثيرًا من إصلاح سدي درنة، والمليشيات المسلحة التي تتقاتل على المكاسب والمغانم.
يطالب أهالي درنة الآن برقابة دولية على تمويل عمليات إعادة الإعمار، لأنهم يعرفون الأسباب الحقيقية للكارثة، ويخشون من أن يتواصل الانقسام السياسي والفساد والإهمال لتتواصل معها الكوارث والنكبات. وقد بدأ بالفعل الصراع على إدارة أموال إعادة الإعمار، التي يُنتظر أن تقدمها الجهات الدولية، بين الحكومة المكلفة من البرلمان في الشرق، وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.
إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، واستمرت أسباب الكارثة، فمن الطبيعي أن تتكرر نتائجها، وتتوالى فصول المآسي التي شاهدناها في ليبيا، تمامًا كما نشاهد فصول المآسي في دول عربية أخرى، وللأسباب نفسها.