مديرية أمن الإسماعيلية.. أكبر من حادث وأخطر من حريق!

فجر الاثنين 2 أكتوبر الجاري تعرض مبنى مديرية أمن الإسماعيلية بمصر لحريق هائل أتى عليه كاملاً وتسبب في تفحمه.
أن يتحول المبنى الضخم إلى هيكل خرساني فإننا لسنا أمام حريق عادي، نحن بصدد حريق كارثي يفوق أي حادث مماثل، ويتجاوز أي حريق آخر.
هل معنى ذلك أنه حريق غير مسبوق؟
ليس هذا المقصود، فهناك حرائق كثيرة سبقته كانت شديدة الدمار وتسببت في خسائر بشرية ومالية ومادية قياسية، مثل حريق قطار الصعيد عام 2002 الذي سقط فيه 361 شهيداً، وحريق قصر ثقافة بني سويف 2005 واُستشهد فيه 50 شخصاً، وحريق منطقة الرويعي في العتبة 2016 حيث التهمت النيران 245 محلاً ومخزناً واُستشهد 3 فيه، والخسائر بلغت 40 مليون جنيه، وحريق مجلس الشورى 2008 دمر كامل مبنى المجلس التاريخي.
وهناك حرائق تم ربطها عمداً بثورة يناير مثل مقر الحزب الوطني، ومقار أقسام ومراكز شرطة، والمجمع العلمي وغيرها من حرائق متناثرة هنا وهناك سقط خلالها ضحايا وتضررت مبان وخسرت البلاد الأموال مرتين؛ في الأولى عندما أنفقتها في تشييد هذه المنشآت، وفي الثانية حينما صرفتها على إعادة بنائها أو ترميمها وتطويرها، وهذا ملف بحاجة لتحقيق خاص مستقل لسبر كل أغواره وكشف مختلف أسرار وتحديد جميع مسؤولياته.
إنما ليس هناك ما يضارع حتى الآن الكارثة الكبرى وهو حريق القاهرة في 26 يناير 1952، والذي لم يكن مجرد نيراناً يتم إشعالها في محلات ومتاجر وفنادق ودور سينما وشركات وبنوك ومساكن وغيرها فقط إنما كان محاولة إسقاط حقيقية للدولة، وإشاعة فوضى شاملة مدمرة.
الحريق وقناة السويس
نعود إلى حريق مديرية أمن الإسماعيلية الذي نعتبره أخطر من مجرد حادث، لأن هذا المبنى مرفق أمني غاية في الأهمية، فهو رمز الأمن والأمان وإنفاذ القانون، وهو يضم مراكز أمنية أخرى حساسة، وتقوم هذه المنظومة بدور أساسي في الحفاظ على أمن مبنى هيئة قناة السويس ومرفق القناة في الإسماعيلية، والقناة مجرى بحري استراتيجي لمصر والعالم وتوفير الأمن يعضد ثقة العالم في المرور بالقناة التي تعبرها سفن وناقلات عملاقة تنقل تجارة بمليارات الدولارات يومياً.
وإذا تعرضت حركة المرور في قناة السويس أو حولها إلى مخاطر، لا قدر الله، فإن ثقة العالم ستهتز في قدرة مصر على تحقيق أمن وحرية المرور في القناة، وقد تتجه حركة التجارة إلى مسارات أخرى، مهما كان زمنها وكلفتها.
لهذا مسألة الأمن في محافظات القناة الثلاث؛ السويس وبورسعيد والإسماعيلية خاصة، خط أحمر غير مسموح بتجاوزه أو التفكير في التلاعب به، فالأمن هنا مسؤولية مصرية ضخمة وضرورة عالمية قصوى.
لذلك فإن مشهد الحريق الهائل لمديرية الأمن المنوط بها توفير الأمن والحفاظ عليه لسكان الإسماعيلية ولقناة السويس والسفن والتجارة والعبور فيها، خطير جد، حتى لو كان بسبب ماس كهربائي وخارج عن أي إرادة بشرية.
هل معنى ذلك أن مبنى المديرية لا يجب أن يتعرض لحريق أو حوادث قدرية؟
إذا وصلنا إلى عدم تعرضه لأي أضرار فإن هذا هو المطلوب، وأن تكون المرافق الأمنية مؤمنة تماماً ضد أي مخاطر، ومنها الحريق فإن هذا أساسي، فمشهد النيران وهي تلتهم المبنى مثل بيت من قش محزن ومقلق.
مديريات ومرافق ومصالح الأمن ومراكز وأقسام الشرطة في أي بلد هى التي تسهر على أمن وراحة الناس وعندما تبدو هشة وتتساقط تحت النيران فإنها تثير القلق من حقيقة القيام بدورها، وتثير التساؤل حول التطوير الذي يجري فيها منذ سنوات والتحصين الكبير لها والأسوار العالية حولها والواجهات الجميلة البراقة لها والمتاريس في مداخلها والمساحات الإضافية من الشوارع المحيطة بها التي تضمها إليها لزوم المزيد من التأمين، وهى إجراءات مكلفة مالياً ويتم تبريرها باعتبار ما حدث في يناير، وللتحصين ضد أي محاولة اعتداء أو انتهاك في العموم.
لاحظت أن بوابة وسياج المديرية لم تصل إليهم النيران وسبب ذلك أن هناك مساحة فضاء تحيط بالمبنى، وهذا جيد، لكنه في نفس الوقت يثير مشكلة من حيث وجوب توفر كل وسائل الحماية من الحرائق فيها مثل الطفايات وصنابير المياه وسيارات الإطفاء، وإذا كانت الوسائل متوفرة خارج المبنى وداخله ووسائل الإنذار ضد الحرائق فعالة لما اشتعلت النيران بهذه الدرجة ولتم إطفاؤها سريعاً دون خسائر كبيرة.
الماس الكهربائي.. ظالم أم مظلوم؟
الماس الكهربائي مُتهم دوماً في الحرائق؛ بالحقيقة أم بالإدعاءً، ما يعني أن شبكات الكهرباء ومختلف المرافق والخدمات داخل المباني بحاجة لصيانة جادة، والمنشآت بحاجة لتوفر كل شروط الأمن والسلامة فيها دون إهمال أو فساد، أما الرقابة والمحاسبة فلا يجب التهاون فيهما.
لاحظت عصر يوم الحريق أن كل ما يتعلق به من أخبار قد اختفى من بوابات الصحف والمواقع الإخبارية، وهذا غير طبيعي في حادث كبير وخطير بحاجة للمتابعة المستمرة، وتقديري أن ذلك ربما هدفه ألا يخطف الاهتمام من مؤتمر (حكاية وطن)، وأيضاً لأن الحريق أمر سلبي يشوش على صورة جهاز الأمن وقوته وقدرته، إذ حينما نرى النيران تلتهم أحد مرافقه فهذا ليس إيجابياً، وهذا الجمود الإعلامي هو توجيهات ممن يخطط فهو لا يريد إعلاماً مهنياً، إنما دعائياً.
في مصر 169 سجناً ومكان احتجاز، فهل عوامل السلامة والأمان وحماية الأرواح متوفرة فيها؟ أظن أن توالي الحرائق التي تطول مبان مدنية ودينية وأمنية يتطلب يقظة جادة ومسؤولية مشددة وضميراً حياً ومحاسبة قاسية.
الحريق وقع الساعة 4 فجراً. ليت لم يكن هناك تراخٍ، وليت لم يكن هناك ضحايا غير ماتم إعلانه، وليت تحقيقات النيابة والداخلية تكون شاملة ومعمقة لمعرفة حقيقة ماحصل، ولماذا؟ وليتنا نستوعب دروس الحرائق الكثيرة.