التشويش على انتصار الطوفان.. ما أشبه الليلة بالبارحة!

إسرائيليون يتظاهرون ضد نتنياهو ويطالبون بعودة أسرى طوفان الأقصى (الأناضول)

 

لن تنسينا معارك الكر والفر حول غزة وحتى في بعض أحيائها النصر المؤزر الذي تحقق يوم 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو النصر الأول الذي تحققه المقاومة الفلسطينية بهذه الصورة الهجومية، وبالتالي فهي الهزيمة الكبرى التي لحقت بجيش الاحتلال في عقر مستعمراته. ما يجري الآن يستهدف التشويش على ذلك الانتصار الفلسطيني، ومحاولة صناعة انتصار إسرائيلي وهمي  يغسل عار الهزيمة، ويعيد الثقة إلى جيش الاحتلال، ويعيد الطمأنينة إلى الإسرائيليين عموما.

ما يفعله العدو الصهيوني اليوم عبر تحركاته التي لم تنقطع لاجتياح غزة كاملة، ثأرا من “حماس” وسعيا لتصفيتها تماما حسب إعلانه الرسمي، هو تكرار لما فعله قبل خمسين عاما في حرب أكتوبر 1973.

لقد حقق الجيش المصري انتصاره السريع في الأسبوع الأول للحرب بعد نجاحه في خداع العدو وتضليله أكثر من عام، ثم مباغتته بالهجوم، وعبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف المنيع، والتقدم كيلومترات داخل سيناء، عاش جيش الاحتلال والمجتمع الإسرائيلي صدمة أربكتهم خلال تلك الأيام الأولى، لكنهم أعادوا ترتيب صفوفهم سريعا مع وصول الدعم الأمريكي الفائق، وقاموا بهجوم مضاد تمكنوا خلاله من عبور القناة، والتوغل غربها بأضعاف ما تقدم الجيش المصري شرقها (في ما يُعرف بثغرة الدفرسوار)، وحاصروا الجيش الثالث الميداني أكثر من شهرين، وزارت العجوز المريضة غولدا مائير -رئيسة وزراء الكيان في ذلك الوقت- جنودها في السويس على الشاطئ الغربي للقناة لرسم صورة تلفزيونية لنصر موهوم.

روايات إسرائيلية كاذبة

الرواية الإسرائيلية المعتمدة حتى الآن، التي تكررها معظم الدوائر الغربية، تدعي أنها خرجت من تلك الحرب منتصرة، وأنها فرضت على السادات الاعتراف بها، لكن هذه كذبة كبرى صنعها جيش الاحتلال وأوهم بها شعبه وأنصاره في الغرب، في محاولة منه لطمس الهزيمة التي تعرّض لها، وحتى يظل محافظا على صورته كجيش لا يُقهر، وهو ما يحاول فعله الآن في غزة، لكن تلك الكذبة لا تصمد أمام الحقيقة الماثلة على الأرض، فقد عبر الجيش المصري قناة السويس، ونجح في تحطيم الساتر الترابي الضخم شرقها متوغلا داخل أرض سيناء مسافة 20 كيلومترا، ونجح تاليا في إعادة فتح قناة السويس للملاحة البحرية التي توقفت فيها منذ حرب يونيو/حزيران 1967، أما الثغرة أو حصار الجيش الثالث فقد تم إنهاؤه من خلال مفاوضات فك الاشتباك، وظل الوضع النهائي هو عودة القناة إلى مصر مؤمَّنة بعدة كيلومترات شرقها، بغضّ النظر عن موقفنا من مفاوضات السلام التالية.

ما تعرّض له جيش الاحتلال في 6 أكتوبر 1973 تكرر معه في 7 أكتوبر 2023 في عقر مغتصباته، مع إضافة جديدة أن كتائب القسام هي التي صنعت الثغرة هذه المرة بالتفافها خلف خطوط العدو عند نقطة إيريز بعملية معقدة تنوعت التفسيرات بشأنها بين كونها إنزالا جويا أو تسللا بريا أو تسللا عبر أنفاق، والتي قُتل خلالها أكثر من 35 عسكريا إسرائيليا حسب تقديرات أمريكية.

النصر المستحيل

مهما كانت الضربات أو التدمير فإن الكيان لن يحصل على صورة النصر التي يريدها إلا إذا حقق الهدف المعلن الذي رفعه وهو تصفية حماس قيادة وبنية عسكرية، وهو هدف مستحيل التحقيق بعد أن حاول العدو تحقيقه مرات عديدة سابقة، وحتى هذه المرة ورغم الكثافة النيرانية والإمدادات العسكرية الأمريكية وحاملات الطائرات والبوارج البحرية والطائرات الحديثة فإنه لن يستطيع تحقيق هذا الهدف حتى لو نجح في قتل مليون غزاوي أو تدمير نصف غزة وتسويتها بالأرض (وهذا مستحيل بدوره)، فحماس فرضت على العدو حربا غير تقليدية، لا تحتاج إلى هذه الأسلحة، وهي منذ بداية “طوفان الأقصى” تمتلك زمام المبادأة، وتفاجئ العدو بعمليات عسكرية خارج توقعاته، كما أن حماس ليست تنظيما منعزلا يمكن القضاء عليه، بل هي منتشرة في كل البيوت الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة وخارجها، وهي قادرة دائما على تجديد قادتها، وتعويض من تفقده منهم.

يدرك نتنياهو أن جيشه هُزم في السابع من أكتوبر، ويدرك أنه سيدفع ثمن هذه الهزيمة غاليا كما حدث مع غولدا مائير التي استقالت أو دُفعت إلى الاستقالة عقب هزيمة أكتوبر 1973، ولذا فإنه يخوض الآن الحرب لإنقاذ نفسه من محاكمة منتظرة تشبه تلك التي تمت بعد هزيمة السادس من أكتوبر 1973 في ما سُمي لجنة أجرانات (رئيس المحكمة العليا) التي أمرت بإقالة رئيس الأركان ديفيد بن إليعازر، ومدير المخابرات الحربية إلياهو زعيرا، وقائد الجبهة الجنوبية شلومو جونين، وعدد آخر من ضباط الاستخبارات. لقد حاول نتنياهو إلقاء المسؤولية مبكرا على أجهزة مخابراته التي قدّمت له تقارير خاطئة عن حماس، وكتب تغريدة اضطر إلى محوها بعد أن أثارت أزمة داخلية في حكومته ومع الأجهزة الأمنية، وها هو يحاول تسجيل أي نصر وهمي على الأرض من خلال عمليات دك بعض مناطق غزة، أو حتى دخول بعض المناطق الرخوة، والزعم أنه تمكن من تحرير مجندة أسيرة، وكل ذلك لن يقنع الإسرائيليين ولا أهالي الأسرى الذين يكثفون ضغوطهم عليه يوما بعد يوم.

ما حدث حتى الآن ليس هزيمة لجيش الاحتلال فقط بل هزيمة سياسية وأخلاقية أيضا لداعميه الغربيين بقيادة الولايات المتحدة، الذين داسوا بأقدامهم ما بشروا به من قيم إنسانية نبيلة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لقد عرّتهم هذه الحرب تماما من ورق التوت الذي كانوا يسترون به أنفسهم من قبل، ولم يعد لكلامهم عن تلك القيم أي مصداقية، ومع ذلك تبقى تلك القيم بحد ذاتها قيما إنسانية رفيعة، لكن استمتاع الناس بها يكون وفق قدرتهم الذاتية على دفع ثمنها.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان