لماذا تبتعد الصين عن الحرب في غزة؟!

الرئيس الصيني شي جين بينغ مع نظيره الكولومبي جوستافو بيترو خلال اجتماع عُقد بقاعة الشعب الكبرى بالعاصمة بيجين في 25 أكتوبر 2023

 

لن يصبح العالم قبل الحرب في غزة هو نفسه ما بعدها، فقد جاء العدوان الإسرائيلي المستمر منذ 5 أسابيع، ليظهر هشاشة النظام الدولي الذي أقره المنتصرون عقب الحرب العالمية الثانية، ليصب في صالح الأقوياء دون غيرهم. فشلت الأمم المتحدة وأمينها العام في فرض قرار دولي لوقف إطلاق النار، ومنع الإبادة التي يمارسها الاحتلال ضد المدنيين العزل، والطواقم الطبية، والمنظمات الدولية العاملة داخل فلسطين، حتى سقط أكثر من 11 ألف شهيد، ثلثهم من الأطفال.

اختفى الشريك السوفيتي الذي صنع نظام الأقوياء، وظلت بقيته بدولة روسيا، التي تحاول كسر نظام ذي قطب واحد تديره الولايات المتحدة منفردة، لتوظيف الأوضاع الملتهبة لصالح إدارتها للحرب الدائرة في أوكرانيا، بدعم المقاومة في غزة، على أمل أن يطول أمد الحرب، وينشغل الغرب عن أوكرانيا أطول فترة ممكنة.

جاءت الحرب بهدية على طبق من ذهب للصين، التي تسعى للانتقال من دولة طرفية إلى قطب مناوئ للولايات المتحدة، في إدارة أزمة الحرب، فإذا بها تسير على نهجها المعتاد، بالانتظار تحت الأشجار لتقطف الثمار الجاهزة للسقوط في جعبتها. تركت الصين الساحة شاغرة أمام القوة الأمريكية الغاشمة للهيمنة على مجريات الحرب، بتأجيجها وتشكيل تحالفات دولية مؤيدة لإسرائيل لتقديم الدعم العسكري والمالي والسياسي غير المحدود للمعتدي، دون أن تزاحمها أو تحد من سطوتها، لتسير في النهاية تحت جناحيها.

“مبادرة لإدارة عالمية”

روجت الصين في الأشهر الأخيرة لنموذج بديل للنظام الدولي القائم، طرحه الرئيس شي جين بينغ عبر “المبادرة العالمية” لإعادة تشكيل العالم، الذي يراه مهندسا بشكل غير عادل لصالح الولايات المتحدة وحلفائها. طُرحت أفكار الرئيس في “كتاب أبيض” وزعته الجهات الرسمية على الدبلوماسيين والسياسيين والباحثين، بهدف كسب الدعم من أنحاء العالم.

أثارت الأفكار قلقا لدى الغرب، بينما لاقت ترحيبا من الدول العربية، التي تأمل أن تصبح الصين أحد الأقطاب بما يحمي أنظمتهما ومصالحها التي تلاحقها واشنطن بلوائح حقوق الانسان والديمقراطية ومصادرة الأموال والقوائم السوداء. استغلت السلطات مشاركة قادة 23 دولة بمنتدى “الحزام والطريق الثالث” في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لتأكيد دور الصين في دعم برامج التنمية بين 150 دولة و30 منظمة دولية بالقارات الخمس، عبر 200 اتفاقية تعاون. تستهدف الصين أن تصبح “صوت الجنوب”، بما يُمكّنها من التحكم في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تُتخذ بأغلبية الأصوات، إلى حين تغيُّر موازين القوى، وإعادة تشكيل العالم وفق رؤيتها.

في التوقيت ذاته، استضافت العاصمة بيجين 30 وزيرا للدفاع وكبار القادة العسكريين، وممثلي الدول بما فيها الولايات المتحدة، والمنظمات الأمنية، بمنتدى “شيانغشان” لمدة 3 أيام، حول وضع معايير دولية تحول دون سيطرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على المعدات العسكرية، التي أصبحت سلاحا ذا حدّين يهدد الدول. أولت الصين أهمية كبرى لتطوير العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، يوم إقالة الحكومة وزير الدفاع المختفي منذ شهرين (لي فونغ) الذي وضعته الولايات المتحدة بلائحة العقوبات الدولية، أثناء إشرافه على شراء صفقات قوات الردع النووي من روسيا عام 2018.

وساطة بلا جدوى

مع تصاعد الحرب في غزة، وجهت الصين مبعوثها الخاص إلى الشرق الأوسط (تشاي شون) لزيارة مصر وقطر للدعوة إلى وقف إطلاق النار بين “إسرائيل وحماس”. حاول المسؤول -الذي تعلّم العربية في القاهرة، وعمل سنوات سفيرا بين مصر والجزائر واليمن والخليج- أن يُهدئ من وطأة الحرب، فلم يجد لدى الطرف المعتدي آذانا صاغية. ورغم محاولة بيجين عدم الإساءة إلى أي من طرفي الحرب، فإن إسرائيل عدَّت مطالبة الصين بحل الدولتين سبيلا وحيدا لإنهاء “الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية” تحيزا إلى “حماس” التي تراها “منظمة إرهابية تستحق الإبادة”.

استعان المبعوث برئيس الدبلوماسية (وانغ يي) الذي أجرى من بيجين اتصالات بجميع الأطراف في المنطقة، فلم يصل إلى نتيجة تُذكر، إلى أن انشغل بسفره إلى نيويورك، لتجهيز لقاء مرتقب خلال أيام بين الرئيسين شي وبايدن، بقمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (APEC)، سيناقش في مدينة سان فرانسيسكو، مستقبل الذكاء الاصطناعي والسيطرة على الأسلحة النووية، وإعادة التعاون بين البلدين في المجالات العسكرية وقضايا المناخ وإزالة التوتر السياسي والاقتصادي.

تريد الصين أن تحظى بالاحترام والإعجاب من الجميع، ولكنها غير قادرة على حل القضايا الأمنية الإقليمية الصعبة، رغم أنها تعتمد على المنطقة في استيراد نصف احتياجاتها من النفط والغاز المسال وتدفق الاستثمارات. اللافت أنها وظفت علاقاتها القوية مع إيران للابتعاد عن المشاركة أو توسيع دائرة الحرب، والضغط على حماس، للإفراج عن أسرى إسرائيليين من أصول صينية، بعضهم مجندون بجيش الاحتلال.

دبلوماسية “التوازن الإيجابي”

أظهرت الحرب أن الصين تخشى -إذا ما اتسعت دائرة المعارك- تعرُّض مصالحها لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، لذلك أفسحت للولايات المتحدة العودة بكامل قوتها إلى المنطقة، مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) والكيان الصهيوني الذي أرادت أن يكون شرطي المنطقة. رغم حالة العداء الظاهرة بين الطرفين، وانتظار بيجين سقوط واشنطن في مستنقع الحروب، فإنها تقترب منها بسرعة، في إطار ما يسمى سياسة “التعايش التنافسي”. يعترف قادة صينيون بأنهم غير مستعدين حاليا، لتحمّل مسؤولية تشكيل نظام دولي بديل وقيادته، لهذا لا ترى الصين في غزة ولا الحرب الوحشية ضد سكانها حجر عثرة أمام نمو اقتصادها واستثماراتها في المنطقة.

تدرك الصين أن شعبيتها ارتفعت بين العرب خلال الفترة الماضية، بمشاركتها في حل أزمات مستعصية بالمنطقة وعلى رأسها التقارب السعودي الإيراني، ودعمها للأنظمة المتوافقة معها في كراهية جماعات الإسلام السياسي، وقمع المعارضين، وتمويلها مشروعات البنية الأساسية بقروض فاسدة تدعم شرعية الاستبداد.

يصف الدكتور وو بينغ بينغ (Wu Bing Bing)، مدير مركز الدراسات العربية والإسلامية بجامعة بيجين، هذه السياسات بأنها “النموذج الصيني للسلام المثالي القائم على حسن الجوار والصداقة”. حدَّد الخبير المقرَّب من مؤسسة الرئاسة والمخابرات الصينية -الذي دعانا مرات عدة لمؤتمرات بمركزه العلمي في الجامعة- دور الصين في “التوازن الإيجابي” بين الأطراف المتحاربة، بينما لم يستطع أن يبرر في مقاله الذي نشرته سفارات الصين، بصحف صينية وعربية الشهر الماضي، لماذا فشلت بيجين في أن تصبح صانعا محتملا للسلام في الحرب بين روسيا وأوكرانيا ووقف العدوان الإسرائيلي على غزة؟!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان