حياة 12 ألف رهينة فلسطيني مهمّة أيضا
تجتهد الدعاية الصهيونية وتبدع في التسويق لأهمية وأولوية إطلاق سراح نحو 240 أسيرا من العسكريين النظاميين والمستعمرين خارج جيش الاحتلال تحتجزهم المقاومة الفلسطينية إثر هجوم “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول. تنجح في ترويج أنهم جميعا “رهائن”، فلا يُستخدم إلا هذا الوصف في غالبية وسائل الإعلام الكبرى خارج إسرائيل، وحتى في العديد منها بالعالم العربي، وباللغة العربية. وبالطبع فإن كلمة “رهائن” تحمل دلالات وإحالات قانونية وإنسانية وتاريخية تخلفت وتتميز عن كلمة “أسرى”.
وليس هذا فحسب، وفور إعلان قائمة الأسرى الإسرائيليين وحتى اليوم، تستخدم هذه الدعاية بتوسع أسلوب إفراد مساحات معتبرة لقصص عن كل “رهينة” على حدة باسمها، وعبر توظيف تاريخها الشخصي وعلاقاتها الأسرية والاجتماعية وأرشيفات صورها، مع إحاطة ظروف السيطرة عليها في جوار قطاع غزة، ونقلها إليه بمبالغات وعبارات التعاطف. ومن يتابع القنوات الفضائية الإسرائيلية ومعها “سي إن إن” و”بي بي سي وورلد”، وحتى القنوات الفضائية مثل “فرنسا 24 ” و”الحرة” الأمريكية، بإمكانه ملاحظة الإلحاح وبكثافة على نشر هذه المواد/ القصص الشخصية “للرهائن” الأسرى الإسرائيليين. وكلما تزداد وحشية مجازر الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة أو تعود التصريحات عن صفقات محتملة لتبادل الأسرى عبر وسطاء إقليميين ودوليين يرتفع منسوب إنتاج هذه القصص، ويتواتر بثها بكثافة.
لكننا في المقابل لا نشهد حتى الآن مجهودا على المستوى العربي والعالمي وبلغات عدة يجاري ويوازن هذه الحملات الدعائية بشأن الرهائن الفلسطينيين. وهذا مع أن أعدادهم أكبر بكثير، ومعاناتهم أشد قسوة، وقضيتهم أقدم وأعمق وأبعد وأخطر وأوضح، وهم أولا وأخيرا محتجزون من جانب قوة احتلال نظامية/ جيش احتلال.
أطفالنا الرهائن عند الاحتلال
قبل ما يزيد على ست سنوات، وتحديدا في 5 مارس/آذار 2017، نشرتُ في جريدة “الأهرام” حين كنت مراسلا في تونس، حوارا مع “فريهان دراغمة” أم “شادي فراح”، وكان وقتها أصغر رهينة/ أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، حيث لم يتجاوز عمره 12 سنة عند اعتقاله في القدس المحتلة ومحاكمته قبل نحو عامين من تاريخ النشر. ولا يمكن أن يغيب عن الذاكرة هذه الجملة المؤثرة للأم حين قالت “طفلي لا يعرف كيف يربط حذاءه ويعذبه الإسرائيليون”(*). واليوم أسأل: كيف سيكون وقع وتأثير ترجمة وقائع العديد من الروايات الإنسانية المماثلة إلى لغات غير العربية على لسان أمهات عن أطفالهن الذين وقعوا فريسة لجرائم جنود الاحتلال وظلم محاكمه وسجانيه.
أعتقد أننا مقصرون، وبخاصة خلال المفاوضات غير المباشرة لتبادل الأسرى حاليا، إن لم نرفع أصواتنا بكل اللغات الحية لنتكلم وننشر على نطاق واسع عالميا عن أطفالنا رهائن هذا الاحتلال الاستيطاني العنصري وإرهاب دولته، وإن لم نقدّم مع كل قصة لكل طفل منهم معلومات وجوانب إنسانية تُحفر في الذاكرة والوجدان، مثل ما قالته “أم شادي” عن ولع طفلها بالتصوير الفوتوغرافي، معززة بالصور ولقطات الفيديو والمقاطع الصوتية. وبالطبع ليس مطلوبا على أي نحو الخطاب الحماسي أو الخشبي أو العاطفي الفج، بل يكفي المعلومات الدقيقة والصور الصحيحة، وإبرازها في قوالب إعلامية وفنية احترافية.
وإذا كانت ماكينة الدعاية الصهيونية وحلفائها عن عمد أو تضليل وغفلة يشتغلون بلا هوادة على التسويق لاحتجاز المقاومة في غزة نحو 30 طفلا إسرائيليا، فكيف لا نكشف للجمهور في الوطن العربي والعالم أنه قبل هجوم “طوفان الأقصى” بأيام معدودة كانت سجون الاحتلال تضم 170 طفلا فلسطينيا؟ وذلك وفق بيان لرئيس هيئة الأسرى والمحررين “قدورة فارس” أمام مجلس الوزراء الفلسطيني المجتمع في رام الله بتاريخ 4 سبتمبر/أيلول 2023. وكيف لا نلقي الضوء على أن بينهم من يقضي عقوبة السجن المؤبد، بعدما حوكموا أمام القضاء العسكري الإسرائيلي وهم أطفال، مثل “أيهم صباح”؟ علما بأن الإحصاءات الموثقة تفيد بأن مجموع أطفالنا الفلسطينيين الذين تعرضوا لتجربة الاعتقال الاسرائيلي منذ حرب 1967 تُقدَّر بنحو 50 ألفا من بين نحو مليون فلسطيني ذاقوا مرارة التجربة. واليوم أصبح من المؤكد زيادة أعداد أطفالنا الرهائن عند الاحتلال بعد تطورات 7 أكتوبر، وإن يصعب تحديد أعدادهم بعد.
وتتراوح أسباب الاعتقال والاتهامات الموجهة إلى الأطفال من الاحتلال الإسرائيلي بين رفع علم فلسطين وإلقاء حجر أو حيازة آلة حادة مثل السكين أو العلاقة مع هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك، ناهيك عن عقاب من تستهدفه مخابرات الاحتلال بضغوطها كي يتعاون معها. وهنا تاريخ طويل ومستمر حي من الجرائم والانتهاكات ضد القوانين الدولية في تحقيقات وتقارير موثوقة وموثقة لمحامين إسرائيليين يهود على غرار الراحلة “فيلسيا لانغر”، ومنظمات حقوقية إسرائيلية ودولية، وليس فلسطينية وحدها. وجانب منها يوثق ممارسات التمييز العنصري ضد أطفالنا الفلسطينيين، بداية بالأمر العسكري رقم 131 الذي يضع سقفا لسن طفولة الفلسطيني عند بلوغ 16 سنة تمييزا عن الإسرائيلي والقوانين الدولية (18 سنة).
ومن المهم أيضا أن نوضح للعالم كيف يضرب التمييز العنصري والقمع حقوق رهائننا الأطفال، المعتقلين والمحكوم عليهم بالسجن، عبر شتى ضروب التعذيب والمعاملة القاسية المهينة والمسيئة، مثل الحرمان من زيارات الأسرة والمحامين والعلاج والطعام الكافي والنظيف، وإطلاق الكلاب البوليسية المتوحشة عليهم، والتحرش الجنسي بهم، وإخضاعهم للعقوبات الجماعية والفردية، وكذلك المحاكم العسكرية التي لا يمكن أن يمثل أمامها طفل يهودي واحد.
الجديد في قضية رهائننا
بعد السابع من أكتوبر، تتوافر معلومات من مصادر إسرائيلية رسمية وحقوقية وصحفية، وليس فقط تلك التابعة للسلطة الفلسطينية أو القريبة منها مثل “هيئة شؤون الأسرى والمحررين”، تفيد بارتفاع جنوني في أعداد رهائننا/ أسرانا الفلسطينيين عند الاحتلال عما كان قبل هذا التاريخ (نحو 5200 في أقل التقديرات). ويمكننا القول إن أعداد رهائننا هؤلاء أصبحت نحو 12 ألفا، وذلك بعد جمع حاصل إحصاءات غير شاملة عن الأعداد الجديدة في الضفة الغربية (ما يفوق 2400 رهينة)، ونحو أربعة آلاف عامل فلسطيني من قطاع غزة كشفت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية في 2 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري عن اعتقالهم قرب حدود القطاع ومن داخل مناطق مختلفة بكامل فلسطين المحتلة، دون تقديم معلومات عنهم وأسمائهم وأماكن احتجازهم للهيئات الدولية المختصة مثل “الصليب الأحمر”، أو إعلان أي جهة بعد عن مصائرهم. وهذا الإحصاء بشأن عمال غزة الباحثين عن فرصة عمل داخل ما يسمى الخط الأخضر (أي فلسطين المحتلة عام 1948) أكده “فارس” في تصريح صحفي لاحق يوم 10 نوفمبر. والمؤسف ألا يجد هؤلاء المختطفون الاهتمام السياسي والإعلامي اللائق إلى اليوم، مع الأنباء المتلاحقة عن الحرب على غزة والمجازر الصهيونية بلا توقف ضد المدنيين والمستشفيات.
كما أنه من غير الواضح إلى اليوم ما هي أعداد الفلسطينيين المعتقلين بعد 7 أكتوبر من حاملي الجنسية الإسرائيلية داخل فلسطين المحتلة عام 48، في ظل ما أكدته لي مصادر فلسطينية بالقاهرة على صلة بالداخل بأن الأشقاء هناك يتعرضون حاليا لموجة قمع وبطش واسعة النطاق، تشمل الطرد من العمل والاعتقال، وحتى لمجرد إبداء التعاطف مع غزة بمواقع التواصل الاجتماعي.
من فم المحتل ندينه
بعد القفزة الجنونية في عدد الرهائن الفلسطينيين عند الاحتلال الآن، ثمة تقارير موثقة تفيد بتكثيف أشكال التنكيل بهم وبعائلاتهم، وكذلك بأحيائهم السكنية في الضفة الغربية التي تؤخذ بدورها رهينة حظر تجوال قاس، أو يجرى تهجير أهلها. ويستحق الانتباه كم الفيديوهات المنشورة بواسطة ضباط وجنود الاحتلال عن اعتداءاتهم وإهاناتهم ضد المعتقلين وبيوتهم وذويهم أثناء الاعتقال والتحقيق الميداني، بما في ذلك الإطلاق المباشر للنار والضرب المبرح وتعصيب العيون والتعرية والسحل الفردي والجماعي، وأخذ الأمهات والآباء العجائز رهائن لإجبار بعض المطلوبين على تسليم أنفسهم.
من جانبها، اعترفت صحيفة “هآرتس” في نسختها الإنجليزية يوم 9 نوفمبر بأن توثيق الجنود ضربهم المعتقلين الفلسطينيين في فيديوهات يقومون ببثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي كان يجري قبل 7 أكتوبر، لكنه تزايد بعدها على نحو يُمثل ظاهرة جماعية. وفجر اليوم (13 نوفمبر) نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” بالإنجليزية أيضا عن رئيسة مصلحة السجون في إسرائيل “كيتي بيري” اعترافا بالتنكيل بالمعتقلين حديثا من أبناء الشعب الفلسطيني، وذلك بزعم أنهم “من مقاتلي النخبة في حماس”، وقالت نصا “الزنازين مغلقة عليهم 24 ساعة. هم معزولون عن العالم تماما، ويتلقون ما هو ضروري للبقاء على قيد الحياة”.
تصاعد مخاطر القتل داخل سجون الاحتلال
وأظن أنه من الواجب أيضا إلقاء الضوء باهتمام على مدى التهديد الواقع على حياة رهائننا الفلسطينيين داخل السجون والمعتقلات، وبخاصة بعدما جُن جنون الاحتلال الصهيوني بعد 7 أكتوبر، وتوسّع في ارتكاب جرائم الانتقام ومجازر الإبادة والتهجير الجماعي “ترانسفير”. وفي هذا السياق، نعلم جميعا بقتل اثنين منهم خلال 24 ساعة في يومي 23 و24 أكتوبر الماضي، وهما الشيخ عمر حمزة دراغمة (58 سنة) و عمران حمدان (25 سنة) إثر تعذيبهما في معتقلي “مجدو” و”عوفر” على التوالي. وهما بدورهما يستحقان من يتقدم بإنتاج وإذاعة قصة كل منهما، بالاستعانة بشهادات عائلتيهما وأصدقائهما ومحاميهما.
وهناك الكثير مما يمكن قوله كذلك بشأن النساء الفلسطينيات الأسيرات رهينات الاحتلال. وتُقدَّر حالات الاعتقال بينهن في غضون عام 2022 وحده بنحو 172 امرأة. أما بعد 7 أكتوبر فحدّث ولا حرج، كما جرى إعادة اعتقال فلسطينيات غير مجهولات للعالم، مثل “عهد التميمي” والنائبة في المجلس التشريعي “خالدة جرار”. ولعله من المهم التذكير بأن نحو ثلث نواب هذا المجلس تعرضوا لاعتقال سلطات الاحتلال لهم قبل “طوفان الأقصى”، وبعده أصبح معلوما إعادة اعتقال رئيسه “عزيز الدويك” من منزله في الخليل.
حلفاء بالضرورة
يتطلب تنظيم حملات قوية متميزة ناجحة على نطاق عالمي من أجل رهائننا/ أسرانا الفلسطينيين، وخلال حرب الإبادة على غزة والمقاومة الأسطورية في ربوعها والضفة الغربية ومع مفاوضات تبادل الأسرى الجارية، الاهتمام بجهود منظمات إسرائيلية ودولية غربية حقوقية لها سمعتها منذ الثمانينيات في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين ومواجهة الإرهاب الصهيوني وعنصريته دولة ومستعمرين. وهنا يمكننا ذكر كل من “بتسيلم” و”هموكيد/ مركز الدفاع عن الفرد” إسرائيليا، و”العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” و”شبكة تضامن مع سجناء فلسطين بنيويورك” دوليا، ولا بد من تقدير جهودها والتفاعل معها. وبالطبع أيضا فلسطينيا لدينا وكالة “وفا” التابعة للسلطة، حيث توفر على موقعها الإلكتروني ملفات ممتازة، بإحصاءات تفصيلية عن الأسرى، و”هيئة شؤون الأسرى والمحررين” و”نادي الأسير” ومؤسسة “الضمير” ومركز “الميزان” في الضفة وغزة.
ولا تخص قضية هؤلاء الأسرى/ الرهائن الفلسطينيين مؤسساتهم وحدها، بل يجب أن تكون في عين اهتمام ورعاية العرب، وبخاصة هيئات المجتمع المدني والإعلام، ومعهم كل أحرار العالم ومنصفيه. ويتساءل أي عاقل: كيف يكون لدى العرب إمكانات وعندهم حلفاء لهم مصداقية من أجل شرح هذه القضية للعالم بكل اللغات الحية ولا يفعلون؟ هذا مع أنها تنطوي على أبعاد إنسانية وقانونية قوية ناجحة رابحة، ولا تحتمل اختلافا في السياسات بين الحكومات والمؤسسات فلسطينيا وعربيا.
وقد نجد في عنوان “حياة الرهائن الفلسطينيين مهمّة” ما يلقى صدى في العالم الآن، على غرار ما كان قبل سنوات انطلاقا من الولايات المتحدة بشأن “حياة السود مهمّة”. وعلى الأقل كي لا نترك الساحة خالية للصهيونية وهي تملأ بدعايتها عن نحو 240 أسيرا جراء “طوفان الأقصى” كل مكان وفضاء تصل إليه، وتبرر بهم وبقصة كل واحد منهم هذه المجازر والإبادة المستمرة على مدار الساعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الرابط الإلكتروني:
https://gate.ahram.org.eg/News/1490767.aspx