أسباب واضحة وأخرى غامضة للارتفاع الحاد للدولار بمصر

في سوق يقوم بالخفض الجبري للواردات السلعية منذ أوائل العام الماضي وحتى الآن، وتعلن فيه الحكومة عن وقف المشروعات التي تعتمد على مكون دولاري كبير، ويعاني من الركود منذ سنوات نتيجة تراجع القدرة الشرائية، وتنخفض به مبيعات السلع المعمرة والسيارات، ويتم به تحجيم استخدام بطاقات الائتمان الدولارية بالخارج…
ويستمر في الاقتراض الخارجي بصور متعددة شملت القروض وإصدار السندات ومبادلة العملات، ويتأخر فيه حصول شركات البترول الأجنبية على مستحقاتها لدي الحكومة، وتعاني فيه الشركات الأجنبية العاملة به من صعوبات في إخراج أرباحها للخارج، وشهد مؤخرا مقاطعة للعديد من السلع المستوردة من دول وشركات تدعم العدوان الإسرائيلي على غزة…
وفي سوق مدت به الحكومة مبادرة شراء المصريين بالخارج لسيارات بدون جمارك نظير وديعة دولارية بقيمة تلك الجمارك، كما مدت فترة دخول الذهب بصحبة المصريين العائدين من الخارج بدون جمارك لستة شهور أخرى، كما تستمر في بيع الأراضي والوحدات السكنية للمصريين بالخارج بالدولار، وأجلت الكويت سداد قرض لها بقيمة 4 مليارات دولار…
في سوق هذه حالته، من الطبيعي أن يقل بهذا السوق الطلب على الدولار، لكن ما حدث كان زيادة الطلب على الدولار وارتفاع سعره صرفه أمام الجنيه المصري، لأرقام غير مسبوقة تاريخيا عندما تخطي السعر الخمسين جنيها مصرية للدولار الواحد، ورغم ذلك يجد الباحثون عن الدولار صعوبة في الحصول عليه بهذا السعر المرتفع، وهو السعر الذي انعكس على ارتفاع أسعار الكثير من السلع وأبرزها الذهب وحديد التسليح والسيارات والسجائر والسكر وغيرها.
تراجع الصادرات وتحويلات العاملين
وهكذا أصبح السؤال من المسؤول عن الارتفاع الأخير لسعر صرف الدولار؟ وقبل تحديد المسؤول فهناك عوامل موضوعية تؤدي إلى استمرار نقص الدولار وبالتالي ارتفاع سعر صرفه بالأسواق المصرية، رغم اتجاهه بالخارج حاليا إلى التراجع في ضوء التوقعات بتوقف الفيدرالي الأمريكي عن الاستمرار في رفع سعر الفائدة خلال الفترة المقبلة.
فحصيلة الصادرات خلال الشهور الثمانية الأولي من العام الحالي، قد انخفضت بنسبة 19% عن نفس الشهور من العام الماضي، وصادرات الغاز قد تقلصت في ضوء الاستهلاك المحلي لها، وانخفاض الكميات الواردة من إسرائيل لتسييلها وإعادة تصديرها، وحصيلة تحويلات المصريين بالخارج في تراجع لأنه ليس من المعقول أن يقوم المصري بتحويل أمواله بالسعر الرسمي البالغ 31 جنيها للدولار، بينما السعر بالسوق الموازية يقترب من الخمسين جنيها.
وها هي السياحة بدأت في التأثر بحرب غزة، وقناة السويس لم تعلن نتائجها عن شهر أكتوير/ تشرين أول حتى الآن مما يثير التساؤل حولها إذ تعود رئيس الهيئة الإسراع بإعلان إيراداتها بالأيام الأولي من الشهر التالي، وها هي حصيلة الطروحات التي تحدثت عنها الحكومة وأنها سوف تتحقق بشهر سبتمبر/ أيلول الماضي ما زالت بياناتها مجهولة، وما زالت وعود الحكومة بدور أكبر للقطاع الخاص غير متحققة.
وما زال الصندوق السيادي السعودي والصندوق السيادي القطري محجمين عن شراء حصص الشركات التي أعلنت مصر عن نيتها لبيعها، رغم الاستعداد المصري لبيع حصص من شركات لم ترد القائمة التي أعلنتها، كما يتضح من مشتريات الصندوق السيادي الإماراتي.
وها هي بيانات المركزي تشير إلى عمق أزمة نقص الدولار، ببلوغ العجز بين صافي الأصول والالتزامات بالعملات الأجنبية تجاه الخارج بالجهاز المصرفي 26.8 مليار دولار بشهر سبتمبر/ أيلول الماضي، بزيادة 889 مليون دولار عن الشهر السابق، رغم قيام مصر بإبرام اتفاق مبادلة عملة مع الإمارات خلال شهر سبتمبر/ أيلول بقيمة 1.35 مليار دولار، وهو العجز المستمر بصافي الأصول الأجنبية بلا انقطاع منذ عشرين شهرا، ويُتوقع استمراره خلال الشهور التالية.
مطلوب 13 مليار دولار شهريا
فرغم الخفض الجبري للواردات السلعية فما زال متوسط قيمتها الشهرية بالعام الحالي حوالي 7 مليار دولارات، والمتوسط الشهري لسداد الدين الخارجي 2.1 مليار دولار، والمتوسط الشهري للمدفوعات الخدمية 1.1 مليار دولار، ليصل إجمالي المتوسط الشهري للمدفوعات المطلوبة 13.3 مليار دولار حسب بيانات المركزي المصري للعام المالي 2022/2023.
ونعود للسؤال الجوهري حول المسؤول عن الارتفاع الحاد بسعر الصرف للدولار، وهنا تتعدد الأطراف ما بين المضاربين والبنك المركزي والأطراف الخارجية، فمع الأزمات ينشط سوق المضاربة في الدولار، وهم الذين حققوا مكاسب جيدة خلال فترة قليلة زاد خلالها سعر الصرف، ولأن الناس تعرف أن هناك تعويما قادما بعد الانتخابات الرئاسية، فإنهم يتحوطون للحفاظ على قيمة نقودهم.
ومع سماح البنوك لرجال الأعمال بقبول الدولارات منهم فقد زاد هؤلاء الطلب على الدولار بالسوق السوداء، كي يدفعوا قيمة البضائع المستوردة من مواد خام ومستلزمات إنتاج حتى لا تتوقف مصانعهم وحتى يفوا بتعاقداتهم التصديرية، كما أنهم يحتفظون بالدولار خشية ارتفاع سعر صرفه خلال الفترة المقبلة، إذ يدور الحديث بين البعض عن الوصول قريبا إلى مستوى الستين جنيه للدولار، مستندين إلى تسعير سهم البنك التجاري الدولي بمصر المتداول حاليا ببورصة لندن.
البنك المركزي متهم من قبل البعض بأنه يدخل السوق الموازية، لشراء الدولار كي يستطيع سداد ما عليه من التزامات خارجية، في ضوء بلوغ العجز بالعملات الأجنبية لديه 10.5 مليار دولار حتى سبتمبر/ أيلول الماضي، ويزيد من ذلك الاتهام عودته للتوسع في طباعة النقود، حيث قام خلال شهر أكتوبر/ تشرين أول الماضي بزيادة طبع النقود بقيمة 30 مليار جنيه.
أما العوامل الخارجية فتتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزه وآثارها السلبية على الإيرادات الدولارية، ورغم نفي وزير السياحة المصري حدوث آثار سلبية على إيرادات الشهر الماضي، إلا أن أصحاب الشركات السياحية أشارو إلى إلغاء حجوزات سياحية بنسب مرتفعة، وقيل إن حرب غزه تسببت في إغلاق حقل تمار لإنتاج الغاز الطبيعي بإسرائيل مما قلل من وصول الغاز الإسرائيلي لمصر.
لكن آخرين يرون أن هناك جهات خارجية تسعي لتعميق أزمة الدولار، والتي تنعكس علي زيادة الأسعار محليا مما يزيد من معاناة المصريين، وذلك للضغط عليهم لتقبل المساعي الإسرائيلية لتهجير سكان غزة إلى سيناء، وهو ما تسهم به الحكومة المصرية من خلال تقليل أعداد شاحنات المساعدات العابرة لمعبر رفح الذي يربط مصر بغزة، والتي لا تكفي احتياجاتهم لزيادة معاناة سكان غزة الذين خلت متاجرهم من السلع، وأصبحت النقود لديهم عاجزة عن شراء الطعام.
وحتى عندما سمحت مصر بعبور أول شاحنة للوقود بعد 40 يوما من نشوب الحرب، وبعد أربعة أيام من قرار القمة العربية الإسلامية بالإدخال الفوري للوقود لغزة، فقد كانت مخصصة لسيارات النقل التابعة لوكالة غوث اللاجئين -الأونروا- وليس للمستشفيات التي توقف معظمها بسبب نقص الوقود، أو للمخابز ومحطات الصرف الصحي وتحلية المياه التي توقفت بسبب نقص الوقود، وحتى كمية الوقود التي تصل لحوالي 24 ألف لتر من السولار أي نصف حمولة شاحنة، قالت الأونروا إنها تمثل نسبة 9% من احتياجاتها اليومية من الوقود.