ما دمره “الطوفان”

ملصق عملاق يصور عملية "طوفان الأقصى" في العاصمة اللبنانية بيروت (الفرنسية)

 

على غلاف روايته الخالدة “الحب في المنفى” الذي رسمه بهجت عثمان، اختار الأديب الراحل بهاء طاهر وضع بيت لشاعر فلسطين الأشهر محمود درويش: ما خسرت السبيلا.

ليست مصادفة بالتأكيد أن يحمل غلاف الرواية التي لم تنس فلسطين وقضيتها على امتداد صفحاتها بيت درويش الذي يبشر بالأمل القادم.

ولعلني أرى الآن أن السبيل الذي لم يخسره درويش -ولم نخسره معه- هو هذا الذي رسمه طوفان الأقصى، فرسخ حقائق، وأسقط ودمر أوهامًا وأساطير، ومهّد طريقًا قادمًا للمستقبل.

فماذا دمر الطوفان؟

الجيش الذي لا يُهزم

بأحاديث الجيش الذي لا يُهزم، وبأوهام هيبة “الدولة” التي تتفوق عسكريًّا على الدول العربية مجتمعة، عاشت أسطورة “إسرائيل” في مخيلة المواطن العربي على مدار عشرات السنين، غذاها الاحتلال، ونفخ فيها بأكاذيب وحروب نفسية حولتها إلى ما يشبه الواقع وأكثر.

ثم جاء يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 -وما بعده- ليفكك أساطير القوة والتفوق، ويكشفها ويحولها إلى أوهام لم تصمد أمام شجاعة مقاومة لا يمكن مقارنتها- عسكريًّا- بأي حال “بدولة” يرعاها العالم الغربي بشكل كامل دعمًا وتسليحًا.

دمر “طوفان الأقصى” العديد من الأوهام، وكشف الكثير من الحقائق بشكل لم تتصوره “إسرائيل” نفسها في أي وقت.

هذه حقيقة مؤكدة.

بمقدار ما زلزلت عملية طوفان الأقصى دولة الاحتلال، وبمقدار ما حققت من صدمة عسكرية ونفسية “لإسرائيل” وحلفائها، دمرت العملية في اللحظة نفسها أساطير وأوهامًا عاشت معنا عشرات السنين، هذه الأساطير والأوهام التي سقطت تعدّت دولة الاحتلال لتصل إلى تفكيك وتغيير الكثير من المفاهيم والقناعات عن العالم العربي والغربي معًا، وتبدو الأسطورة الأولى التي انتهت إلى الأبد هي أن عدونا الأزلي لا يمكن هزيمته.

القادة الغربيون وحقوق الإنسان

في اللحظة ذاتها التي فضح فيها “الطوفان” ضعف “إسرائيل” وتفككها من الداخل، وكشف إمكانية هزيمتها بشكل ساحق، إذا ما امتلكت دولنا العربية الإرادة والشجاعة والقدرة على المواجهة، فإنه أيضًا أكد أن الشعوب وحدها هي التي تؤمن بكل القيم الإنسانية، وبكل ما يدعيه قادة الدول الغربية من حقوق الإنسان التي تأتي في مقدمتها الحق في الحياة ذاتها، فقد أسقط الطوفان صنم الحكام الغربيين المنحازين إلى الحرية والمساواة، وأظهرهم في صورة “المستعمر القديم” الذي يضرب بكل القيم الأخلاقية عرض الحائط، ويدوس على كل القوانين الدولية والإنسانية، ولا يرى أن الدم العربي يستحق موقفًا كلاميًّا يدلل على إيمان تلك الإدارات الغربية بكل ادعاءات ومزاعم الحق في الحرية والكرامة والحياة والعدالة.

ضرب الطوفان “إسرائيل” فأسقط القناع عن وجه الحكام الغربيين، وظهروا كأسوأ ما يكون، وانحازوا إلى كل الجرائم بلا مواربة، واستخدموا حتى في خطابهم السياسي أحط وأسفل العبارات والمعاني التي تحمل كل صور العنصرية والكراهية والفاشية.

مدنيون لا مقاومة

في كل مقولات الحكام الغربيين عن “مساعدة المدنيين الفلسطينيين” تأكيد جديد لعنصريتهم، وترسيخ مؤكد لوجههم الاستعماري البغيض، فهؤلاء يتعاملون معنا -ومع الشعب الفلسطيني- بوصفنا شعوبًا لا تستحق سوى الدواء والغذاء، ولا نعدو في ثقافتهم القميئة إلا مجرد أرقام من الفقراء يتعاطفون مع حقنا في البقاء على قيد الحياة، لكنهم لا يعترفون أبدًا في خطاب الخسة بأننا شعوب مقاومة أيضًا، ولسنا مجرد بشر “درجة ثانية” نستحق تعاطف السادة الجالسين على مقاعد الحكم في دول الاستعمار القديم الجديد، لا يعترفون أبدًا بأن الفلسطينيين شعب مقاوم، وأنه يستحق الحياة، وأن الاحتلال هو أصل الداء، وأن مقاومة الاحتلال -في كل المواثيق الدولية التي يترنمون بها ليل نهار- حق مشروع.

كشفت الأنظمة الغربية وجهها القبيح بنظرتها الاستعلائية الوقحة، التي تنكر حقنا في المقاومة والحياة كمواطنين متساوين مع كل شعوب الأرض، لكن الطوفان دمر هذه النظرة إلى الأبد، وطرح قضية فلسطين على كل شعوب الأرض، وانحازت الشعوب ليس لحق فلسطين في حفنة مساعدات إنسانية، بل -وهو الأهم- لحق الفلسطينيين في الحرية والحياة والكرامة متساوين مع كل شعوب الأرض، وبدا للجميع عبر طوفان الأقصى أن مقاومة الاحتلال حق، والانتصار للدولة الفلسطينية المستقلة واجب على كل صاحب ضمير حر.

الاستبداد يحمي استقرار الأوطان

مع تماهي قادة الدول الغربية في انحيازها للعدوان على غزة، كانت الشعوب حاضرة وبقوة، ضغطت على حكام فشلوا في إخفاء وجههم القبيح، وانحازوا للقتل والدمار والترويع، حققت احتجاجات الشعوب توازنًا نسبيًّا في الموقف الغربي، وفشل القادة الغربيون في التمسك بمواقفهم الظالمة، بدا مشهد الحراك الجماهيري في أمريكا وأوروبا معبّرًا وكاشفًا لقوة الشعوب، ولقدرة التحركات الشعبية السلمية على تغيير دفة الحرب، حدث هذا بينما كانت شعوبنا العربية محاصرة باستبداد ثقيل وقمع غليظ يكتم على أنفاسها، يقيد حركتها، ويرفض أن ينفجر غضبها سلميًّا في الشوارع والميادين.

كل الحكام الذين أوهمونا أن الاستبداد وحصار الجماهير وحركتها سببه أننا نعيش في منطقة غير مستقرة، وأن حركة الناس تُضعف دولنا، كشفهم طوفان الأقصى، فقد ظهر للجميع أن الاستبداد وحصار الشعوب يخصم من قوة الأوطان وتأثيرها، ويمنح العدو الهدوء، ويجعله مرتاحًا أكثر لفكرة أن أحدًا لن يهدد مصالحه، وأن الاستبداد يحميه من امتداد رقعة الغضب إلى الشعوب العربية.

أسقط طوفان الأقصى كل الأقاويل المتهافتة التي تمتدح الاستبداد، أو تلك التي تخير الشعوب بين الحرية والاستقرار، بل ضرب الطوفان مثلًا عظيمًا في التأكيد أن الخلاص من الاستبداد هو الذي يضمن للأوطان الاستقرار والأمن، وأن هواء الحرية هو الذي يحمل رسائله الواضحة إلى كل الأعداء والطامعين، ويؤكد أن هذه المنطقة البائسة من العالم بها شعوب يمكن أن تفرض كلمتها، وأن تحاسب وتساءل حكامها إذا تخاذلوا عن الانتصار لفلسطين وقضيتها، ولعل المقارنة بين تحركات الشعوب في أوروبا وأمريكا وتأثيرهم في حكامهم من جهة، وشعوبنا المحاصرة من جهة أخرى، كاشفة لعبثية الحديث عن الاستبداد الذي يحمي الاستقرار، فها هو العدو يهدد الأمن القومي العربي بينما الاستبداد يحميه ويحصنه من غضب الشعوب وتحركهم الواجب في تلك اللحظة الفارقة.

المؤكد أنه مع كل القتل والدمار والترويع الذي مارسته دولة الاحتلال، دمر طوفان الأقصى أوهامًا وأساطير، ورسم طريقًا جديدًا للقضية الفلسطينية، فالتدمير ليس معيارًا للانتصار في الحروب، لكن الانتصار الحقيقي يبقى في ما رسخته الحرب من حقائق جديدة على الأرض، وما هدمته من أكاذيب زالت مع كل عملية شجاعة قامت بها مقاومة لا يمكن أن تُهزم أو تختفي قبل أن يزول الاحتلال من الأرض المحتلة، وهو زائل مهما طال الزمن، فهكذا علمنا التاريخ.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان