قراءة لمعطيات ورسائل دفعات المحررين الفلسطينيين الأربع

لعل ما جرى بين الجمعة وأمس الاثنين من تحرير أربع دفعات من أسرى شعب فلسطين لدى الاحتلال في سياق الهدنة المؤقتة بين 24 و27 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري 2023، وقبل الإعلان بساعات عن التمديد ليومين آخرين مع دفعتين إضافيتين، هو من بين أسرع عمليات التبادل بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. وهذا مقارنة بما كان بشأن آخر صفقة بينهما قبل “طوفان الأقصى” في عام 2011، حيث جرى إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط” بعد نحو خمس سنوات من اختطافه قرب قطاع غزة مقابل 1027 أسيرا عند الاحتلال.
الصفقة الكبرى لم تبدأ بعد
ملامح تبادل الأسرى لم تكتمل بعد، وخصوصا أن الصفقة الكبرى المرتقبة لم يجر التفاوض بشأنها بعد. وهي تضم وفق مصادر مقربة من حماس في القاهرة تحدثت معهم، الأسماء الشهيرة، مثل: القيادي بحركة فتح ومنظمة التحرير مروان البرغوثي المختطف والمحبوس منذ 2002، والأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات منذ 2006، وقياديين بارزين في الكفاح المسلح من حماس نفسها وجناحها العسكري كتائب القسام مثل: حسن سلامة وإبراهيم حامد وعباس السيد ونائل وعبد الله البرغوثي. وهذه الأسماء على وجه التحديد كانت من بين من رفض الاحتلال تحريرهم خلال “صفقة شاليط” التي أطلقت عليها المقاومة تسمية “وفاء الأحرار”. وهم محكوم عليهم من محاكم قضاء المحتل الجائر العنصري بجملة مؤبدات أو سنوات سجن طوال لكل منهم. بل طالما صدرت تصريحات وقرارات وقوانين المحتل خصيصا كي تمنع إطلاقهم في أي صفقة تبادل أسرى مستقبلا.
وعلى أي حال، فالأيام القادمة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية وبخاصة في قطاع غزة، الذي سطر ملحمة صمود وبطولة أسطورية جديدة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، حبلى بالمزيد من التطورات. وكذلك بمفاجآت وتحولات وانقلابات في هذا الملف، الذي فتحه هجوم 7 أكتوبر عنوة ودون إرادة من المحتل. وكما تفيد تفاصيل ما جرى بشأن الدفعات الأربع السابقة، ثمة تنازلات متبادلة مقارنة بتصريحات أطلقتها القيادتان في تل أبيب وغزة، مع تراجع مؤكد وأوضح عند المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين.
ومع هذا، تستحق الدفعات الأربع من المحررين منذ مساء الجمعة الماضية محاولة أولية لقراءة معطياتها واستلهام دروسها وعبرها، وهو ما قد يسهم في إنارة احتمالات وتطورات قادم الأيام.
القدس المحتلة في المقدمة
من بين إجمالي 150 محررا من أبناء الشعب الفلسطيني حصيلة الدفعات الأربع، يتوزعون على 127 طفلا (أقل من 18 سنة) و33 امرأة، يمكننا استنتاج الملاحظات التالية، وذلك عبر مراجعة هذه الأسماء، ومعها المعلومات التي أعلنتها حماس، وبخاصة مسؤول ملف الأسرى بها زاهر جبارين وحساباته على صفحات التواصل الاجتماعي، وكذا الهيئات الفلسطينية المعنية بالأسرى والمحررين. وهذا على الرغم من أن المعلومات الأولية لم تتطرق بعد إلى ملامح ما زالت غائبة، مثل الأعمار والديانة والانتماء الفصائلي أو عدم وجود انتماء محدد، وغيرها من معطيات:
ـ تتصدر القدس المحتلة حصيلة المحررين بعدد 49 محررا، ووحدها بين مختلف المدن الفلسطينية تستأثر بنسبة الثلث. ويتوزع المقدسيون المحررون على 39 طفلا و10 سيدات. وهو أمر له دلالة مهمة. وهذا ليس فقط بالنسبة لتوكيد الدور النضالي البارز والمقدر لأهالي المدينة في مقاومة الاحتلال وتهويدها وطردهم واقتلاعهم منها، والعدوان على مقدساتها الإسلامية والمسيحية كالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة. بل يمثل هذا الحضور المقدسي بين هؤلاء المحررين التفاتة، تحمل رسائل قوية من حماس ومختلف الفصائل المقاومة معها في غزة. وهذا من حيث استمرارية مغزى عنوان “هجوم طوفان الأقصى”، وكذا بتحدي نجاح سلطات الاحتلال الصهيوني قبل فترة وجيزة في عرقلة إجراء الانتخابات الفلسطينية، وتمسكه بمنعها في القدس.
وهي سالة إلى تل أبيب وحكومة اليمين المتطرف بقيادة “بنيامين نتنياهو” بأن أن تقبل بكل هذا الثقل غير الغائب المعاني لأطفال ونساء القدس، فهو أمر يغني عن أي كلمات أو تفسير على جبهة صراع الإرادات بين المقاومة والاحتلال.
ـ كل المحررين هم من أبناء الضفة الغربية، باستثناء طفل واحد من رفح في قطاع غزة. وفي هذا أحد حوامل تعزيز الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي سياق الأحداث الجسام المتلاحقة بعد 7 أكتوبر.
ـ حلت رام الله مركز ومقر سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني ومعها البيرة المجاورة، وهما محافظة واحدة، في المرتبة الثانية مع تحرير 21 طفلا وسيدة واحدة. وأن تأخذ رام الله هذا الاهتمام بعد القدس مباشرة، فهذا أيضا من بين حوامل تعزيز الوحدة الفلسطينية ورسائلها، التي تتطلب من السلطة وحركة فتح التقاطها والتجاوب إيجابيا معها.
ـ وبين المراتب من ثلاثة إلى تسعة جاءت مدن: نابلس 16 طفلا، وجنين 13 طفلا وامرأة، و13 طفلا من بيت لحم مهد المسيح ومستقر كنائسها التاريخية العتيقة يتقدمها “المهد”، و10 أطفال من الخليل، و 8 أطفال من قلقيلية، و 5 أطفال من طولكرم. ثم تأتي مدينة أريحا عاشرة بثلاثة أطفال محررين.
ـ لا يمكننا بعد تقديم إحصاء وتصنيف مماثلين بشأن الانتماءات الفصائلية لهؤلاء المحررين، نتيجة عدم توافر هذه المعلومات كاملة بعد. لكن يقينا لم يغفل مفاوضو المقاومة عن التوكيد على حامل آخر من حوامل الوحدة الوطنية، كان بدوره حاضرا في صفقات تبادل الأسرى مع الاحتلال على مدى عقود عند ما كانت قيادة العمل المقاوم الفلسطيني تتركز في الجوار العربي لفلسطين، ويغلب عليها الانتماءات القومية العربية واليسارية.
وكما كان الحال مثلا عند تحرير مؤسس حماس الشهيد الشيخ أحمد ياسين على أيدي “الجبهة الشعبية/ القيادة العامة” في صفقة عام 1985 بعد عمليتها الفدائية في الجليل، وتمكنها من أسر ثلاثة جنود إسرائيليين. ولولا هذه الصفقة لما خرج من سجون الاحتلال قبل عام 1997.
وعلى كل حال، وحتى الآن هناك استنتاجان بشأن هويات المحررين في الدفعات الأربع الأولى. الأول يرى أنه يغلب عدم الانتماء إلى فصيل بعينة من فصائل المقاومة، وهذا بحكم أن ثلثيهم من الأطفال. والاستنتاج الثاني يقدر أن بين المئة والخمسين 60 من فتح و30 من حماس و17 من الجبهة الشعبية، والبقية 43 مستقلون. ومع هذا يمكننا أن نلاحظ بين قائمة أسماء المحررين من هم يقينا من خارج حماس، مثل السيدة روضة أبو عجمية من الجبهة الشعبية.
ـ استعراض أسماء المحررين يشير إلى أن بينهم عددا من الأبطال الأطفال وضحايا اعتقالات الاحتلال من الفلسطينيين المسيحيين. وهذا ما تفيد به ألقاب عدد من العائلات، وبخاصة من القدس وجنين.
البيئة المحيطة
بالدفعات الأربع
تؤدي الصورة دورا استثنائيا وربما غير مسبوق في مجريات ورمزيات وتأثيرات وتداعيات “طوفان الأقصى” وما أعقبها من صمود أسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته بكل ألوانها، وتتقدمها بالطبع “كتائب القسام”. ولسنا في حاجة إلى تبيان مفعول الصورة في الرأي العام العالمي على مدى نحو خمسين يوما مضت، وداخل الولايات المتحدة التي تشارك إدارتها ومجمعها الصناعي العسكري المالي في حرب الإبادة في غزة والضفة. وفي سياق الأيام الأربع الماضية مع متابعة عمليات التبادل اختصرت الصور الكثير من المقارنات بين المقاوم والمحتل المشحونة بالخلفيات والدلالات الثقافية والأخلاقية.
وهنا تحق استنتاجات، ستناقشها على الأرجح دراسات في المستقبل، بين كيف كان يتعامل المقاومون مع أسراهم مقارنة بعدوانية وعنصرية وأوهام التفوق عند سلطات الاحتلال وعناصرها من سجانين ومنفذين لعملية التسليم، وإزاء الطفل والمرأة من أبناء فلسطين. وهذا بعدما أذاقوهم أهوال التعذيب والحرمان من الطعام والماء والتريض في الهواء والاتصال بخارج المعتقلات، مع السب والشتم ومحاولات الحط من الكرامة والإهانات، وإلى حد استشهاد ستة أسرى فلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023. ويكفي أن نستدعي ونوثق ما بثته شاشات الفضائيات على الهواء مباشرة عن أطفال تجري جرجرتهم بخشونة وقسوة في الأغلال (الكلابشات) نزولا على درجات السجون الإسرائيلية. وهذا فضلا عن اعتداء جنود الاحتلال على أهالي المحررين خارج السجون.
كما أنه من المهم توثيق ما بثته الشاشات عن هذه الكيمياء التي نشأت بين المحتجزين الإسرائيليين والأجانب وبين حراسهم المقاومين ومن يتولون تسليمهم، وحتى لو كانوا ملثمين. وهنا يبدو الكثير من الأمور الطيبة والإنسانية لغة الجسد والوداعات بالمصافحة بالأيدي أو التلويح بها، وفي أجواء يسودها سلام وارتياح. وهذا في المجمل والتفاصيل يأتي عكس مجريات تسليم المحررين الفلسطينيين وعلاقتهم مع سجانيهم ومن يقومون بتسليمهم من المحتلين. وأظن أن هذه المقارنة تدعو إلى أن يفخر بدلالتها كل عربي ومسلم وإنسان حر، وليس فقط الفلسطيني. وفي هذا أيضا، خير رد ودحض وتفنيد للدعاية الصهيونية الكاذبة عن المقاومين، وبخاصة من قاموا بهجوم “طوفان الأقصى” وخرجوا بهذا الكم غير المسبوق من الأسرى في عملية مقاومة مسلحة واحدة.
تحية خاصة
للطفل والمرأة
الدفعات الأربع من المحررين تحمل بحكم مكوناتها تحية خاصة من المقاومة ونحو 2,3 مليون صامد في قطاع غزة، للطفل والمرأة في عموم فلسطين، وبخاصة في الضفة الغربية، وبالأخص في القدس. وهذه لفتات وإشارات ستحفر عميقا في الوجدان والذاكرة لأجيال مقبلة، وستكون بلا ضفاف.
والمتوقع بعد المزيد من هذه الدفعات المرتبطة بتمديد الهدنة المؤقتة أو الاستراحة من حرب الإبادة الصهيونية الأمريكية على غزة أن يجري الانتقال إن عاجلا أو آجلا إلى التفاوض الأصعب والأهم والأكبر حول أعداد ونوعية المحررين الفلسطينيين مقابل الضباط والجنود الإسرائيليين وغيرهم من مستوطنين مسلحين. وهنا فإن معادلة الأيام القليلة الماضية: إسرائيلي واحد مقابل ثلاثة فلسطينيين ستكون غير مقبولة من مفاوضي المقاومة. وهذا استنادا إلى سوابق صفقات التبادل.
وفي كل الأحوال، فإن كلا الطرفين يحاول أن يعزز أوراق ضغطه، وإن تميزت الأوراق الإسرائيلية بالتمادي في عدم أخلاقيتها وخروجها عن القانون الدولي والإنساني. وهذا عندما تستمر في التلويح بالعودة إلى استئناف إبادة وحصار المدنيين الفلسطينيين في غزة. وهي في ذلك لا تكتفي بأخذ ملايين الشعب الفلسطيني تحت سلطة الاحتلال وآلة عدوانه الأمريكية الإسرائيلية رهينة، تمد في أجل تعذيبها وقتلها وتجويعها وتعطيشها وحرمانها من العلاج يوما تلو آخر وفق دفعات تبادل تجري بالتجزئة. بل تخاطر كذلك بتعريض حياة ومصير بقية محتجزيها لدى المقاومة للموت تحت القصف أو ركام الدمار.
ويشهد التاريخ حاليا على دعم الإدارة الأمريكية لهذه اللعبة/ الابتزاز/ الجريمة الصهيونية اللاأخلاقية. لعبة وضع المسدس في رؤوس أكثر من مليونين من المدنيين في غزة، وقد أصبح أغلبهم بلا مأوى. وتهديد الجميع كي تستمر دفعات التبادل على هذا النحو، وفي محاولة لقطع الطريق على أهم صفقة وأكبرها أو تأجيلها بأقصى ما يمكن، ولحساب استمرار حكومة التطرف الصهيوني اليميني في الحكم بتل أبيب، ومعها عتاة جنرالات حرب الإبادة والتطهير العرقي والتهجير الجماعي.