من دروس الصمود والانتصار في غزة

مهما تغوَّل الباطل وطال بقاؤه وبطشه فهو حتمًا إلى زوال، لأنه باطل يفتقد إلى جذور وقواعد وأعمدة الحق.
هذا الحق حتمًا ينتصر في نهاية الشوط لأنه حق، ولأنه القاعدة والأساس، وما دونه -وهو الباطل- استثناء مؤقت وشذوذ عن القاعدة ومخاصمة للواقع وتضاد للحقيقة وهامش على متن الجوهر.
الصهيوني ليس أصيلًا ولا راسخًا ولا ثابتًا، ولا جذور أو قواعد له أو أعمدة تسند حوائطه المائلة في الأرض التي يحتلها ويستوطنها، أما الفلسطيني فهو الثابت الراسخ المتجذر المسنود بحوائط تمتد في الأرض بعمق التاريخ، لهذا هو الصامد والمنتصر مهما طال زمن الاحتلال، ومهما تعرَّض لضربات وقدَّم تضحيات.
ملحمة غزة تمنح اليقين بأن الصهيوني المدجج بالسلاح والمدعوم بلا سقف من قوى طاغية هو في حقيقته يعاني الوهن والقابلية للاندحار والزوال.
وعملية السابع من أكتوبر البطولية تكشف عوامل ضعف هذا الكيان مهما تستر بسياج القوة، ومهما تمترس وراء نهج العنف لإثبات قدرته وهيبته.
وصمود غزة وشعبها ومقاومتها طوال خمسين يومًا من الفظائع دون أن يحقق الصهيوني هدفًا واحدًا، له دليل على أن قوة التدمير لا تعني الفوز ولا الثقة بالنفس، فالقوة المادية ليست وحدها عامل الحاسم في المواجهات.
والفلسطيني يتفرد بقوة الحق الذي يدافع عنه، وقوة الهدف الذي يضحي من أجله وهو إسقاط الاحتلال واستعادة حريته وحقوقه في أرضه ومستقبله، ولديه قوة الإيمان بالعقيدة المشروعة المحركة له في الانتصار أو الاستشهاد، لهذا هو لا يفنى ولا ينكسر ولا ينهزم.
القوة ليست في قتل سكان مدنيين ولا تدمير مستشفيات ومدارس ومخابز وسحق كل أشكال الحياة، القوة أن يواجه الصهيوني جيشًا منظمًا مثله يقاتله وجهًا لوجه، لا أن يقصف من الجو وهو يعلم أن المقاومة ليست جيشًا ولا قدرات جوية لديها، وعندما جاءت الحرب البرية فإن الصهيوني عجز عن تحقيق أي إنجاز، فقد كبدته المقاومة خسائر مؤلمة في الجولة الأولى ومن مسافة صفر وبقدرات بدائية مقارنة بترسانته الضخمة، وهذا أهم دروس غزة الصمود.
غزة تفضح الجميع
دروس غزة تزيد فضح الجميع؛ نازية الصهيوني واستحالة التعايش معه، وأن السلام العادل ليس في تفكيره، وأنه لن يشعر بالأمن ما دام يُمعن في الاعتداء على الفلسطيني والعربي، وهو بلا مستقبل في منطقتنا.
غزة تفضح أمريكا وأوروبا ومن يتبنى نهجهما، ولم نعد بحاجة إلى القراءة عن التحشيد للحروب الصليبية والاستعمارية قديمًا، فقد عايشنا الدعاية والمساندة لجولة ظلامية دموية جديدة في هذه الحروب من خلال كل هذا الإسناد السياسي والدبلوماسي والعسكري والاقتصادي والمادي لإسرائيل طليعة جيوش القتل تحت رايات العنصرية والكراهية والأحقاد والمعتقدات السياسة والدينية الفاسدة.
وغزة تفضح العرب والمسلمين الذين هم غثاء بلا وزن، ولا قدرة لهم في الدفاع عن شقيقهم وحتى أنفسهم، فهم مطية الأمم اليوم، وعداؤهم بينهم شديد، وهم مع عدوهم خانعون منسحقون مستسلمون، ولسنا بحاجة إلى استعادة التاريخ المخزي لملوك الطوائف الذين أضاعوا الأندلس، فنحن نعيش زمن ملوك الطوائف الجدد.
وغزة الانتصار تفضح الوهم الكبير العتيق المُسمى المجتمع الدولي، فهذا المجتمع هو نفسه القوى الاستعمارية المتغطرسة التي عقيدتها القوة المتحللة من الأخلاق والإنسانية، فلا مكان في المجتمع الدولي الكاذب للضعيف والمظلوم والمسالم والأخلاقي.
وغزة المجد تفضح القانون الدولي والمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فكل ذلك يتعرض للمصادرة من جانب الأقوياء، أما الضعفاء فهم خارج أي غطاء أو حماية أو إنصاف.
وغزة تفضح روسيا والصين والهند والبلدان الكبرى خارج خريطة الغرب، فهؤلاء وغيرهم مواقفهم باهتة أو ضبابية، ولا تليق بهم، والمفترض أنهم دول موزونة تتحرى العدالة.
الكيان والحليب الأمريكي
غزة تؤكد أن الكيان الصهيوني لا يعيش إلا بحبل سري ممتد من قلب أمريكا إليه، وبدون الحليب الأمريكي الدسم لن يبقى هذا الكيان طويلًا، حتمًا سيرفع الراية البيضاء سريعًا، وواشنطن وحلفاؤها الأوروبيون يدركون ذلك، لهذا يحرصون على الهيمنة على النظام الرسمي العربي، وفرض وصاية عليه وجعله تابعًا، وإدخاله بيت الطاعة عندهم.
ومع العدوان على غزة والقتل في الضفة والقمع في القدس، فإنه بموازاة حرص أمريكا على الدعم الفج لإسرائيل، فقد مارست التطويع والتهديد والتحذير للأنظمة العربية بالابتعاد عن غزة وتركها وحيدة في مواجهة المحارق الصهيونية.
جرى ذلك تحت عنوان عدم التصعيد في المنطقة وعدم توسيع الحرب، وتبنت أنظمة عربية وإسلامية مقولة عدم التصعيد للحرب، وأخذت تكررها مثل بايدن وماكرون وشولتس وسوناك وغيرهم، ومثل هذا القول يعني استفراد الصهيوني بغزة وارتكاب أشنع الفظاعات ضد المدنيين فيها.
هذه الأنظمة اكتفت بالتنديد والشجب، والإذعان للأمريكان بخضوع ذليل اعتادت عليه حتى أدمنته، وغزة تواجه المجازر وحدها، وهى تنتصر وحدها أيضًا.
سلطة فلسطينية جديدة
غزة تُثبت أن سلطة رام الله فقدت أسباب وجودها، فهى أسيرة لدى “الصهيوأمريكي”، وهي مثل السلطات العربية لاتملك من قرارها شيئًا، والشعب الفلسطيني بحاجة إلى سلطة جديدة موحَّدة، تسمو إلى قوة المقاومة وثبات الشعب الذي تحكمه، وتطلعات هذا الشعب ويقينه بتحرير بلاده وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة غير منزوعة السلاح، وهذا ليس صعبًا.
عملية السابع من أكتوبر الجريئة تمنح الثقة بأن هزيمة الصهيوني يسيرة، فرجال المقاومة الذين عبروا السياج كانوا يتحركون بسياراتهم في فلسطين التي يحتلها الصهيوني (غلاف غزة والمستوطنات) كأنهم في جولة سياحية، وحققوا كل أهدافهم وعادوا إلى قواعدهم سالمين، لهذا جُن جنون الصهيوني، وأيقن مع الأمريكي أن دولته التي يشيدها بالأسوار والقلاع والسلاح والبطش طوال 75 عامًا هي أوهن من بيت العنكبوت.
لا فضل لأحد على غزة وشعبها ومقاومتها، فهم وحدهم الذين يواجهون أبشع كيان استيطاني دموي، وهم الصامدون، وهم المنتصرون.