اعتزال أم كلثوم واعتذار جمال عبد الناصر

الصور المعلقة على الحائط في متحف أم كلثوم بالقاهرة (الأناضول)

لم يكن جمال عبد الناصر ليتغافل عن صوت بحجم سيدة الغناء العربي وهو يرسم خريطة القوة الناعمة لمصر مع بدايات مشروعه القومي للوحدة العربية، أم كلثوم التي بدأت الغناء في عام 1921 وحققت شعبية طاغية بين أبناء الأمة العربية بصوتها الذي يحمل قوة العقل وروحانية القلب كما وصفها المفكر المصري عباس محمود العقاد.

بدأت أول أغانيها الوطنية في عام 1927 في أغنية (إن يغب عن مصر) في ذكرى الزعيم المصري سعد زغلول، وانتشرت أغانيها لتغني لمصر النيل، سد أسوان، السودان، العراق، شباب مصر في حرب فلسطين في عام 1948، وكانت أول صوت غنائي في الإذاعة الملكية يوم افتتاحها 31 مايو/أيار 1934، وصارت صوت المملكة المصرية طوال سنوات ما قبل ثورة يوليو لم يكن لجمال عبد الناصر ألا يرى صوتًا بهذا التأثير وذلك الحجم في مشروعه الثقافي والفكري الذي يرى فيه وحدة أمة العرب وتحريره من الاستعمار.

لم تكن مجموعة القرارات التي اتخذها الضابط المسؤول عن الإذاعة المصرية لتقف أمام جمال عبد الناصر لتخسر مصر صوتًا بقوة أم كلثوم وتأثيرها، فقد قام هذا الضابط بمنع أغاني أم كلثوم من الإذاعة المصرية، وكذلك طردها من نقابة الموسيقيين التي كانت نقيبها، كل هذا بحجة أنها من رموز العهد البائد.

اعتزلت سيدة الغناء العربي واحتجبت في منزلها، ولم تعد للغناء حتى بعد أن أوقف جمال عبد الناصر القرارات، وشكل ناصر وفدًا لزيارة أم كلثوم والاعتذار لها عما حدث، وفي تلك الزيارة بدأت العلاقة الممتدة بين القائد صاحب المشروع، والسيدة التي قالت عنها صحيفة “النيوز ويك” إنها ملكة بلاد العرب في الغناء، والتي امتدت إلى آخر أغنية قدمتها في رثاء جمال عبد الناصر من كلمات نزار قباني، وتلحين رياض السنباطي (عندي خطاب عاجل إليك)

عندي خطاب عاجل إليك

من أرض مصر الطيبة.. من الملايين التي تيمها هواك

من الملايين التي تريد أن تراك.

لكنني لا أجد الكلام.. الصبر لا صبر له

والنوم لا ينام.

أم كلثوم صوت القومية العربية

لا تزال أم كلثوم بتأثيرها في الغناء العربي، وجماهير الأمة العربية التي كان موعد حفلاتها موعدًا لتجمع الأمة العربية من الرباط إلى عمان والبحرين على شاطئ الخليج، وكانت الشوارع العربية تخلو من المارة في بلاد العرب كلها، لا يزال موضوعًا للباحثين في مجال العلوم الاجتماعية والثقافية.

فاجأني الصديق الفلسطيني الدكتور جلال السلمي الباحث في العلاقات الدولية بإرسال بحثه العلمي الجديد، وكان عن سيدة الغناء العربي وعنوانه (تأثير صوت أم كلثوم والإذاعة المصرية في انتشار القومية العربية والناصرية)، وقد جاء هذا البحث في أيام تواصل الهدنة الإنسانية الممتدة حتى الآن في غزة، وتوقف حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على أهلنا في غزة، وفي بحثه القيم عن أم كلثوم يرصد الباحث العلاقة الثلاثية بين جمال عبد الناصر، صوت العرب، وأم كلثوم.

أم كلثوم كانت حجر الزاوية في مشروع جمال عبد الناصر الفكري الخاص بنمو الثقافة الشعبية، فالسيدة التي تتعامل مع أغلب الشعراء العرب من أصحاب القصائد سواء بالفصحى أو العامية من المؤكد أنها وسيلة عالية الأهمية في توصيل الفكرة العربية، والثقافة الشعبية بما لها من إمكانات صوتية وشكلية.

يشير الباحث إلى لقب أم كلثوم (بنت الريف) فهي تعني القرب من الطبقات التي استهدفها جمال عبد الناصر في مشروعه سواء داخل مصر حيث العدالة الاجتماعية والاستقلال، أو مشروعه القومي في الوحدة العربية، وتحرير الوطن العربي من الاستعمار، وتحرير فلسطين التي كانت قلب مشروع عبد الناصر.

كانت صوت العرب الإذاعة التي مثلت صوت الثورة المصرية في توجهها إلى الأمة العربية، والتي كان إنشاؤها في العام الثاني للثورة، وضعت استراتيجيتها بهدف حشد الروح العربية نحو تحقيق دولة العرب الكبرى تحت لواء واحد هي الوسيلة التي يصل بها صوت أم كلثوم إلى أمة العرب، بما لهذا الصوت من تأثير.

انتقلت سيدة الغناء من إذاعة القاهرة إلى صوت العرب، وامتدت ساعات بث أغانيها من ساعة يوميًا إلى ساعات عدة وفي أوقات متعددة صباحًا وعصرًا ومساءً، بل يشير الباحث إلى تخلل بعض خطابات جمال عبد الناصر بين فقرات أم كلثوم الغنائية، ذلك كنوع من استخدامها في انتشار القيم السياسية التي يقدمها جمال عبد الناصر في خطاباته، ويوجهها لجماهير الأمة العربية.

الأغاني الوطنية لأم كلثوم

قدمت أم كلثوم ما يقرب من 15 أغنية وطنية قبل ثورة يوليو كان آخرها أغنية مصر تتحدث عن نفسها التي جاءت مواكبة للنضال المصري ضد الاحتلال الإنجليزي في القناة حينما تم إلغاء معاهدة 1936، وبدأت المقاومة الشعبية.

كانت أغنية صوت الوطن (مصر التي في خاطري) هي أولى أغنيات سيدة الغناء العربي لثورة يوليو وقدمت في أكتوبر/تشرين الأول من عام قيام الثورة نفسه، وتوالت أعمال أم كلثوم التي صارت النجمة الأولى لاحتفالات ثورة يوليو، بلغ عدد الأغاني حتى وفاة جمال عبد الناصر 38 أغنية.

تشير الدراسة التي قدمها الصديق الفلسطيني إلى أهمية صوت أم كلثوم في مخاطبة عواطف العرب لمصر كونها بلد العروبة، وكذلك رفع هيبة الجيش المصري ليصل إلى كونه الجيش الذي يمثل العرب جميعًا، الذي يحمي العروبة ويحمل هدف تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.

في أغنية أخرى باسم “خلي السلاح صاحي”، أحيت أم كلثوم روح الثورة والكفاح لدى المُستمع، فهي تستجدي المقاومة والتحدي الصارخ للأعداء، فلا سبيل للخلاص والاستقلال والحرية والكرامة سوى السلاح والنضال. تتوعد أم كلثوم بصوتها الصنديد الواثق العدو، وتقول كلمات الأغنية:

والله زمــان يـا سـلاحـي.. اشتـقـت لـك في كـفـاحي

انطق وقـول أنـا صاحـي.. يــا حــرب والله زمــان

والله زمـان ع الجــنــود.. زاحفة بـتـرعـد رعـود

حالـفة تـروح لم تـعـود.. إلا بـنـصــر الـزمــان

هذه الأغنية التي ساندتها أم كلثوم في عام 1961 بأغنية (ثوار.. ثوار) التي تحمل الإيقاع المقاوم الداعم لنضال الشعوب العربية في فلسطين والجزائر، وتأكيد قداسة الأراضي العربية باحتضانها الرسالات السماوية المسيحية والإسلامية، وقيادة مصر منهج الحفاظ على هذه القداسة.

من أرضنا هل الإيمان والدين.. عيسى ومحمد ثورتين خالدين

والعلم ثورة ومن هنا قامت.. والفن والحرية والتمدين

ثوار باسمك يا تاريخ تنطلق.. نحكم عليك يا مستحيل تنخلق.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان