أقنـعة الغرب تسقط في غزة

بدءًا من تاريخ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم يعد من حق الغرب إلقاء محاضرات على دول العالم الثالث تتعلق بالديمقراطية أو الحرية أو حقوق الإنسان، بدءًا من ذلك التاريخ لم يعد من حق الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص إملاء التحذيرات والشروط أو حتى النصائح على أي عاصمة أو حكومة في دول ما وراء البحار والمحيطات، بدءًا من ذلك التاريخ سقطت الأقنعة، كشفت الممارسات العلنية والخفية لهؤلاء وأولئك عن الوجه العنصري البغيض، الطائفي المتطرف، الاستعماري الأكثر دموية في التاريخ الحديث، لم يعد الأمر مجرد معايير مزدوجة أو كيلا بمكيالين وما شابه ذلك.
هذه هي الحقيقة دون أي تحيز أو مبالغة أو حتى رتوش من أي نوع، ذلك أن آخر ما كان يتصوره إنسان على وجه الأرض، هو ذلك التغاضي وغض الطرف، بل تشجيع ودعم دولة الاحتلال الصهيونية على ارتكاب تلك المجازر اليومية في قطاع غزة، في حق مدنيين عُزّل، في محاولة يائسة وبائسة للتغطية على هزيمة عسكرية نكراء في وضح النهار لم تعرف دولة الاحتلال لها مثيلًا، حتى وإن تطلب ذلك قتل آلاف البشر، معظمهم من النساء والأطفال، وهدم آلاف المنازل على رؤوس قاطنيها، وتدمير مستشفيات وسيارات إسعاف ومدارس، واستهداف المسعفين والصحفيين والنازحين.
تحت الأنقاض
لم تهتز أي مشاعر لمسؤولي دول الاتحاد الأوروبي، حاملة مشعل الإنسانية والأخلاق، وهم يرون مئات الجثث تحت أنقاض مستشفى تم قصفه بطائرات أمريكية وقذائف أوروبية، لم يتحرك ضمير الإدارة الأمريكية، خصوصًا رئيسها جو بايدن والأنباء تتحدث يوميًّا عن سقوط نحو 500 قتيل جراء القصف بالأسلحة التي ينقلها الجسر الجوي من قواعد أمريكية بالمنطقة منذ أول يوم لاحتدام الأزمة، زيارات المسؤولين الغربيين سياسيين وعسكريين لدولة الاحتلال تتوالى يوميًّا للوقوف على آخر احتياجاتها من الأسلحة والذخائر، استمرار الدعم المادي والمعنوي بل والتحريض على مدار الساعة في تحدٍّ واضح لكل القوانين والمواثيق الدولية.
الغريب في الأمر، أن كل أحزابهم السياسية، من يمين ويسار، جمهوريين وديمقراطيين، اشتراكيين وشيوعيين، علمانيين ودينيين، محافظين وعمالا، نفضت أيديها بشكل جماعي، من كل ما صدعت به رؤوسنا طوال أكثر من سبعة عقود -منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية- عن القيم والأخلاق والمساواة والعدالة وإرساء قواعد السلم والأمن، حتى إن بعضنا، إن لم تكن الغالبية، صدقوا هذه الادعاءات، وكان ما كان من الترحيب والهتاف لإعلان القوات الأمريكية والبريطانية نشر الديمقراطية بالشرق الأوسط مع غزو العراق عام 2003 بمباركة العواصم العربية، ثم كان ما كان من التدخل الغربي الفاضح في ليبيا عام 2011 بدعوى تحريرها من قبضة الدكتاتورية، بمباركة جامعة الدول العربية هذه المرة، وبجهد حثيث من أمينها العام آنذاك السيد عمرو موسى.
وقد استمرت هذه الأوضاع بالوتيرة نفسها، وبالذرائع ذاتها، إلى أن احتُلت سوريا وتمزقت إربًا، وتفرق دم أبنائها بين العواصم والمليشيات، ثم كان ما كان في كل من اليمن ومصر وتونس، إلى أن بلغ الأمر مبلغًا متفاقمًا في السودان، في الوقت الذي لا تزال فيه القائمة متخمة بمخططات التقسيم ومؤامرات التوطين، إلى أن كشفت غزة عن الوجه الحقيقي للمؤامرة، من خلال تصريح يومي يجاهر به كل من رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب يوآف غالانت، من أن الهدف من العدوان على غزة هو تغيير وجه المنطقة، أُكرر: تغيير وجه المنطقة، ولنا أن نطلق عنان تفكيرنا للوقوف على ما تعنيه هذه الجملة أو هذا التعبير.
إذن، لم تهرول حاملات الطائرات والبوارج والسفن الحربية والمسيّرات إلى المنطقة من أجل غزة، ولم تحصل دولة الاحتلال على أسلحة متطورة ومركبات مصفحة وذخائر ذكية من أجل الانتقام فقط، ولم يهرول قادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى إسرائيل من أجل القضاء فقط على حركة حماس، ولم تبارك دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام المجازر في حق المدنيين الفلسطينيين لمجرد إخلاء غزة، أو إعادة توطين ما تبقى من سكانها.
الانسحاب المشين
الأمر أكبر من ذلك بكثير كما هو معلن من إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وكأن الولايات المتحدة عز عليها الانسحاب المشين من أفغانستان، والانسحاب الجزئي من العراق، كما أن فرنسا تجر وراءها أذيال الخزي والطرد من دول غرب إفريقيا الواحدة تلو الأخرى، كما لم تستطع بريطانيا بشكل خاص تحقيق أهدافها من استنزاف الروس في أوكرانيا، في الوقت الذي يظل فيه الألمان يعيشون حالة الندم التي لا معنى لها على خلفية ما يسمى المحرقة، بينما تسيطر الأيديولوجية اليسارية المسيحية على الحزب الديمقراطي الحاكم في إيطاليا، وهو في مجمله ما عزز أسباب ذلك التكالب على المنطقة العربية في هذا التوقيت تحديدًا، لتنفيذ ذلك المخطط المعلن.
لكن ما يثير الغثيان، هو ذلك القبح الغربي، ممثلًا في الوضوح بإعلان الأهداف، وذلك الدعم اللامحدود لكيان لا يتورع عن قتل النساء والأطفال ليل نهار بدم بارد، ترتفع معه الأرقام بوتيرة متسارعة لا تستطيع نشرات الأخبار مسايرتها، في حين تظل المؤسسات الدولية والأممية بشكل خاص قاصرة عن اتخاذ أي قرار أو إجراء رادع، في وجود ما يعرف بالفيتو، الذي ظل سيفًا مسلطًا على القضية الفلسطينية بشكل خاص، بعد أن تم استخدامه “أمريكيًّا فقط” نحو 55 مرة، في مواجهة مشاريع قرارات تدين الاحتلال والعدوان، وهو ما منح الدولة اللقيطة حصانة حقيقية تضعها في الاعتبار طوال الوقت وهي تقتل وتقصف وتعتدي.
ربما كانت هناك الكثير من الانتقادات الغربية، لسياسة القطيع التي اتسم بها موقف دول الناتو خلف الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية، على اعتبار أن الأزمة برمتها صناعة أمريكية بريطانية ما كان لها أن تكون، إلا أن الأمر حينما يتعلق بالكيان الإسرائيلي، نجد أن القطيع كله ظل في حالة سباق مع الزمن في التحريض وتقديم السلاح بشكل خاص، على مدى 75 عاما هي عمر القضية، إلا أن الأمر كان مختلفًا وحقيرًا هذه المرة من وجوه كثيرة.
فقد طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن من الكونغرس دعمًا يبلغ نحو 65 مليار دولار، ووصل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إلى تل أبيب على متن طائرة شحن أسلحة، في بادرة هي الأولى من نوعها، في الوقت الذي دعا فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التعامل مع المقاومة الفلسطينية كتنظيم “داعش” متعاميًا ومتجاهلًا أننا أمام حركات مقاومة ودفاع عن أرض ومقدسات هي الأقدم في التاريخ، لتسقط من الآن فصاعدًا ورقة التوت عن الجميع، فيصبحوا عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، ليس أمام الشعوب فقط، وإنما في المنتديات والأروقة الدولية أيضا، ولا عزاء للمتصهينيين العرب الذين حملوا على عواتقهم طوال الوقت لواء التمسح بالغرب (المتحضر)!!
