من فنون المقاطعة.. خذوا الحكمة من “دعم الصين”!

أثار العدوان الوحشي لجيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة، موجة غضب شعبية عربيا. وعكست وسائل التواصل الاجتماعي حجم الغضب الذي شجعه أولي الضمائر الحية بأنحاء العالم. أشهر الجمهور سلاح المقاطعة بوجه الدول الداعمة للإرهاب الإسرائيلي، فإذ بنخبة من رجال الأعمال يدفعون بالساسة وأجهزة الإعلام، لمحاربة فكرة المقاطعة. يعتبر بعضهم المقاطعة دعوة جنونية، في ظل اعتماد الأسواق العربية على الواردات، وعدم وجود بدائل محلية تكفي احتياجات المواطنين، بينما يطلب آخرون التعامل مع الحدث ببراغماتية، ومنهم من يشهر سلاح البطالة والركود، بما يخيف الناس من مناقشة فكرة المقاطعة تماما.
تشتت الناس حول فكرة ظلت لسنوات وسيلة التعبير الوحيدة التي يمكنهم ممارستها بإراداتهم لنصرة قضية وطنية ودينية، في مواجهة أنظمة كثيرة تتماهى مع دولة الاحتلال، وتفرض قبضة حديدية عليهم، بما يحول دون تعبيرهم عن رفضهم للمجازر التي يرتكبها الصهاينة ضد الأشقاء بغزة والقدس والضفة الغربية، عدا ما يلاحقونهم داخل السجون والمعتقلات.
السائرون نياما
تقف الأنظمة الاستبدادية، على يمين النظام الصيني الذي يحكم بقبضة أمنية أشد قسوة وبطشا بالمعارضين والمسلمين والأقليات التي يريد تذويبهم في قومية الهان قسرا، ودفعهم إلى الإيمان بالمبادئ الشيوعية التي يعتنقها كمذهب سياسي وإيديولوجي للحزب الحاكم. تبرر الأنظمة عدوانها على الغاضبين بدواع عدة، ولا تترك فرصة للسائرين خلفها نياما بالتعبير عما يجيش في صدورهم، بما يظهر تلاحم الشعب مع الدولة في قضايا تهدد الأمن القومي، فتخنق الرأي العام وتعطل دور الشعب في مواجهة المحتل.
انقلاب دستوري
كان الحزب الشيوعي الصيني أول من انقلب على نفسه، ليجنب البلاد ويلات المجاعات الواسعة، فاتخذ من الرأسمالية منهجا لإدارة اقتصاد البلاد. بدأ الانفتاح الاقتصادي عام 1979، أي بعد صدور قوانين الانفتاح الاقتصادي بمصر بأربع سنوات. احتفظ الشيوعيون بالسلطة وفقا لنهج سياسي لم يتغير، بينما تبدلت نصوص الدستور عدة مرات، حتى بلغت الرأسمالية وحشا يناطح كواسرها بالغرب. يتملك القطاع الخاص 50٪ من الأصول الرأسمالية، وتتحكم الدولة وحكومات الأقاليم بشركات تدير باقي الأصول، بعضها بشراكة مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي. لدى الصين نصف عدد المليارديرات في العالم، ونحو 33٪ من أعضاء نادي المليونيرات، يديرون مع شركائهم الغربيين أكبر 300 شركة متعددة الجنسيات، تعمل بكافة الأنشطة الصناعية والخدمية.
يدار الاقتصاد الصيني ممزوجا بالسياسة، فلا حركة للاستثمارات بدون أوامر مباشرة من الحزب الشيوعي. أدت الطفرات الاقتصادية إلى تفاوت هائل بدخول الأفراد، وبروز أصحاب الملايين من الطبقات الجادة والطفيلية. التزام الساسة ببراغماتية شديدة في نظرتهم للقضايا الخارجية.
فرغم كراهيتهم الشديدة لليابان، نجدها من أعلى الدول بملكية مصانع واستثمارات بالصين، ومع تصاعد غضبهم من الأمريكان فإن السوق الأمريكي الأول بتلقي منتجاتهم واستثماراتهم، ومع تفضيلهم للعرب المستهلكين لبضائع بـ 300 مليار دولار سنويا، ويوفرون 50٪ من احتياجات بيجين من البترول، فإنها ترتبط بعلاقات وثيقة وحميمية مع إسرائيل، خاصة في المجالات العسكرية والاقمار الصناعية والتجسس والرقابة على الإنترنت.
لا غربية ولا شرقية
تتسع الفجوة بين النظام السياسي ورجال الأعمال والمواطنين بالصين إلا أن هذه الفجوة تصبح منعدمة عندما يتعلق الأمر بقضية وطنية كبرى. في رحلتهم نحو اقتصاد السوق استنسخ الصينيون منتجاتهم المحلية التي تضاهي أو تنافس المنتج الأجنبي. لم تتوقف عمليات الاستنساخ عند الدعم المالي والفني من نظام قومي متعصب لجذوره، يأمل في قيادة العالم عما قريب، بل ظهرت مبادرات خاصة تدفع بتقليد المنتجات التي يقبل عليها الجمهور. يظهر الصينيون تعصبا لمأكولاتهم وملابسهم وحياتهم اليومية، ويعلمون منذ سنوات أن الغرب أرادهم عمالا في مصنع كبير، ولن يتحرروا إلا إذا تحولوا إلى مبدعين ومبتكرين. بدأت المنافسة بالتقليد الأعمى، وتحولت مؤخرا إلى ابتكارات خاصة وان تشابهت في الشكل لكسب ولاء المستهلكين.
أسس مستثمرون صغارا شركة “تاستين” وهي تعني” لا غرب ولا شرق” عام 2012، لبيع المأكولات ” كنتاكي” و” ماك” فإذا بهم يتحولون إلى بيع مأكولات ذات خصائص صينية عام 2017. تعلم المغامرون سر الصنعة الأمريكية التي تعتمد على الدعاية الضخمة، والجمع بين التخفيضات الهائلة في الأسعار وتكتيكات السوق، لجذب الجمهور، لعلامتهم التجارية. ابتكر الشباب وجبة” البرجر الصيني” الغنية بالنكهات والألوان الصينية، لتباع بـ 7 يوان أي أقل من دولار، أرخص سعرا وأشهى من الغربية، فأصبحت أكثر ملاءمة لميزانية الشباب والأسر التواقة إلى وجبات سريعة تذكرهم بأكلات الأجداد. الوصفة الرابحة حولت الشركة الصغيرة إلى عملاق ينافس “كنتاكي” الذي لديه 9733 فرعا و” ماكدونالدز” 6205 أفرع بينما أصبحت تدير 5400 فرع العام الحالي، وفقا منصة تحليلات المطاعم “كانيان داتا”.
عودة للقدس
تفوقت شركة” لوتشين كوفي ” على “ستاربكس” كأكبر سلسلة مقاهي بالصين، بعد استهدافها إغراق السوق بفروع تقدم خدمات درجة أولى وملائمة للميزانية. في دارسة أجرتها منصة ” كانيان داتا”، بينت أن السبب الرئيسي الذي استشهد به المستهلكون لشراء المنتجات المحلية هو” دعم الصين”. كان ملفتا أن يأتي الشباب على قمة الراغبين بشراء ما هو صيني، وهو ما لاحظناه في استطلاعات أجريناها خلال الأيام الماضية، حول رأي الشباب العربي في مقاطعة المنتجات الداعمة للعدوان الإسرائيلي.
المقاطعة لن توقف سيل الدماء في غزة والعدوان الوحشي المدعوم من صهاينة العالم، وسط صمت قادة ومسؤولين عرب على الجرائم البشعة، ولن تضر رجال الأعمال الباحثين عن التخلص من التبعة المطلقة للغرب والشرق، ولكنها خطوة ستؤدي حتما لجمع شمل العرب حول قضية تحرير القدس.