حظر جوي فوق غزة ولو بشرف المطالبة والمحاولة

قبل ما يزيد على أسبوع، وجه “مجلس السلم بالولايات المتحدة” نداء لفرض منطقة حظر جوي فوق قطاع غزة. وتقدم المجلس، وهو منظمة غير حكومية عريقة تعود إلى زمن الحرب الباردة وحملات نزع السلاح النووي، في بيان حمل عنوان: “أوقفوا الهجوم الأمريكي الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة” باقتراحين للحكومتين البرازيلية والمصرية. وهذا بوصف الأولى كانت ترأس مجلس الأمن الدولي قبل أن تنتقل الرئاسة بحلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني إلى جمهورية الصين الشعبية، وبوصف الثانية من الجوار الإقليمي.
للأولى اقترح النداء/ البيان، التحرك العاجل لوضع مشروع قرار على طاولة مجلس الأمن أو إصدار بيان رئاسي من المجلس. أما بخصوص الثانية تحديدا فقد جاء النص: “يمكن للقوات الجوية المصرية المتمركزة بقاعدة “أبو صوير” فرض حظر جوي لمنع استمرار قصف غزة، وللسماح للأمم المتحدة والوكالات الدولية بتقديم الإغاثة الإنسانية للفلسطينيين المحاصرين”.
وبالطبع، فإن مجرد المطالبة والإلحاح على فرض حظر جوي فوق قطاع غزة لحماية المدنيين ومقار الأمم المتحدة ووكالاتها، لا يعني أن أمامه حظوظا كبيرة كي يمر في مجلس الأمن، ما دام هناك “الفيتو” الأمريكي ومواقف حكومات غربية أخرى، فضلا عن تدني سقف المواقف الرسمية العربية. كما لا تضمن هذه المطالبة توافر القرار السياسي والقدرة العسكرية الميدانية على تنفيذ الحظر الجوي من خارج المجلس، ولو بقرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
ومع هذا، يظل هناك افتراض بهذه الإمكانية حتى من خارج المنظمة الدولية، وذلك متى توافرت الإرادة والعزم لدى قوى إقليمية أو دولية تملك قدرات فرض هذا الحظر، خصوصا أنها ستكون معززة بشرعية القانون الإنساني، وترحيب غالبية حكومات المجتمع الدولي، ورأي عالمي قوي إلى جانب الشعب الفلسطيني وضد حرب الإبادة هذه.
لكن يبدو أنه لم يأخذ أحد في هذا العالم بعدُ هذا النداء/ الفكرة بالاهتمام والجدية الواجبين، ولو حتى على صعيد إطلاق حملات غير رسمية بهذا المطلب الذي له سوابق، سنتطرق إليها هنا، في مناطق تسيطر فيها قوة جوية على المجال الجوي لإقليم معاد لها وتتسيده، وتمارس قصفه بالطائرات دون رادع أو دفاعات فعالة، على نحو يتسبب في خسائر بين المدنيين، وإلى حد ارتكاب مجازر “الإبادة الجماعية”.
سوابق العراق
والبوسنة وليبيا
من المنطقي في ظل المجازر المتوالية على غزة وعرقلة أي هدنة ولو إنسانية ومؤقتة والتجرؤ على قصف المستشفيات وغيرها من جرائم الحرب وضد الإنسانية، أن ترد هذه الفكرة على الخاطر. بل وتفرض الفكرة نفسها عندما نعود إلى تجارب سابقة لم تسقط بعد من الذاكرة. وعلى الأقل لدينا وبخاصة منذ بداية العقد التاسع من القرن العشرين، حالات العراق والبوسنة وليبيا.
فمع نهاية حرب الخليج الثانية الشهيرة بحرب تحرير الكويت، فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حظرا جويا على شمال العراق (فوق خط العرض 36) وجنوبه (تحت الخط 32)، منذ عام 1991 حتى 2003، وإن انسحبت باريس من المشاركة في غضون 1996. وكان مبرر هذا الحظر حماية أكراد العراق في الشمال وشيعة الجنوب، من قوات الحكومة المركزية لنظام صدام حسين ببغداد وقصف سلاحه الجوي.
وفي سياق هذه الأسباب أو المبررات تبلور هدف حماية المعارضة العراقية على وقع اتضاح أبعاد مجزرة قصف قرية “حلبجة” الكردية جوًّا بالسلاح الكيماوي 1988، وسقوط نحو خمسة آلاف مدني أو أعداد أقل. وهو رقم يتواضع كثيرا أمام ما يجرى الآن للمدنيين الفلسطينيين في غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كما لا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن واشنطن وحلفاءها عجزوا عن إصدار قرار واضح صريح من مجلس الأمن بفرض هذا الحظر، وإن جرى تأويل قرار المجلس 688 بتاريخ 5 إبريل 1991 على نحو لم تقبل به قوى دولية أخرى وأعضاء دائمون بالمجلس.
ومع عدوان الصرب على البوسنة ومسلميها، جاءت السابقة الثانية في فرض الحظر الجوي، بقراري مجلس الأمن 781 و816 في عامي 1992 و1993. وقد دام هذا الحظر أكثر من ثلاث سنوات. وحتى في هذا السياق، لم يكن التنفيذ محل إجماع دولي، وبخاصة من القوى الكبرى. وفي الأصل كان هناك امتناع من الصين حين التصويت لرفضها استخدام القوة ضد “يوغوسلافيا/ بلغراد”.
أما الحالة الثالثة البارزة أيضا، فكانت بشأن ليبيا. وكان ذلك في المرة الأولى مطلع التسعينيات عقابًا من قوى الغرب لنظام “القذافي” على تورطه في تفجير طائرة “لوكيربي”، واستمر إلى نحو 2003، وجاءت الثانية لحماية معارضيه و”الأهداف المدنية” من هجوم طائرات النظام خلال الثورة الليبية، وذلك بقرار مجلس الأمن 1973 في 17 مارس/آذار 2011. وهو القرار الذي امتنع 5 من إجمالي 15 عضوا بالمجلس عن تبنّيه أو معارضته. واستغرق تنفيذ هذا الحظر مع توجيه ضربات جوية لقوات وقدرات “القذافي” نحو سبعة أشهر، وذلك حتى سقوط النظام ومقتل الدكتاتور الليبي السابق نفسه. ولكن من قام بالتنفيذ في المرتين كان هو سلاح الجو الأمريكي وحلفاء واشنطن وحدهم.
ولعل من الدروس المستفادة استناد الحالات الثلاث السابقة في فرض الحظر الجوي على المادة 42 من ميثاق الأمم المتحدة، أو محاولة تبريره بالإشارة إليها. وهي التي تجيز للمجلس أن “يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدوليين” إذا عجزت التدابير الأخرى كقطع العلاقات والمواصلات والاتصالات والعقوبات الاقتصادية.
ولابد من استخلاص آخر مفاده أن حالة غزة وفلسطين عموما لديها وجاهة أهم وحجية أقوى في فرض الحظر الجوي، لأن المطلوب شلّ عدوانه على المدنيين هنا هو قوة احتلال، وليس طرفا في صراع داخلي. وحتى بالمقارنة مع البوسنة، فإن الدوافع لفرض الحظر فلسطينيا وغزّيا أقوى من حيث أن “البوسنة والهرسك” في الأصل كانت إقليما في دولة واحدة متعددة القوميات معترف بها دوليا، هي “يوغوسلافيا”. وكذلك لأن عدد الضحايا بين المدنيين في قطاع غزة جراء حرب الإبادة الصهيونية الإسرائيلية الجارية المدعومة أمريكيا وفي غضون شهر واحد تفوق أعداد ما يماثلهم من ضحايا في مجزرة “سربرنتسا” عام 1995، وهم 8372 شهيدا.
حضور الفكرة
بعد الربيع العربي
تأسيسًا على هذه السوابق والمقارنة، يمكننا القول بأن حالة قطاع غزة على نحو خاص وفي السياق الفلسطيني حالا وتاريخا هي أكثر جدارة بفرض الحظر الجوي. فإذا كانت قوى دولية مارسته في مواجهة صراعات محلية داخل هذه الدولة أو تلك ولحماية معارضي هذا النظام أو ذاك، فإن الأحق به شعب في مواجهة احتلال يصر على مخالفة قرارات الشرعية الدولية الملزمة بإعطائه حقوقه في تقرير المصير والدولة والاستقلال والعودة.
وهذا فضلا عن العدوان على القوانين الإنسانية ومؤسسات الأمم المتحدة وممارسة التمييز العنصري والتطهير العرقي وجرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري “الترانسفير”. وتأسيسًا على السوابق المذكورة هنا يتضح أن فرض الحظر الجوي لم يكن بالضرورة محل إجماع بين الدول، أو بمقتضى قرار من مجلس الأمن.
واللافت أن هناك سابقة على صعيد النظام الرسمي العربي في هذا الاتجاه. ففي سياق صحوة الشعوب مع انتفاضات وثورات 2011 من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة الوطنية والإنسانية، اتخذ اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية في 10 إبريل/نيسان من ذلك العام قرارا لا سابق ولا لاحق له إلى اليوم بالمطالبة بفرض حظر جوي فوق قطاع غزة، ولرفع الحصار الإسرائيلي عنه ولحماية المدنيين. وكلف القرار، في نهاية ولاية السيد “عمرو موسى” الأمين العام للجامعة آنذاك، المجموعة العربية بالأمم المتحدة بالسعي لتنفيذه. ونلاحظ هنا أن قرار الجامعة جاء بعد سقوط 19 شهيدا وإصابة نحو سبعين فقط من مدنيين ومقاتلين في غزة. لكن العدوان على القطاع سرعان ما توقف، بعدما أطلقته آلة الإرهاب الصهيونية متعللة بسقوط صاروخ “لحماس“ على حافلة تقل تلاميذ مدراس من المستوطنين وإصابة اثنين منهم. كما يتعين أيضا ملاحظة رد “حماس” ذاتها على إصدار هذا القرار، حيث وصفته بأنه “خطوة جريئة ومتقدمة، وخروج على الإطار التقليدي لاجتماعات الجامعة”.
والحقيقة أن مقارنة عبارة واحدة في بيان مجلس الجامعة حينها تصف هذا العدوان الإسرائيلي على غزة “بالإرهاب الوحشي” مع ما أصبح عليه حال وسقف الخطاب الرسمي العربي ومفرداته في مواجهة عدوان الإبادة الجاري مثل “وقف التصعيد” و”إدانة استهداف المدنيين من الجانبين”، تغني عن المزيد من الإيضاح والبيان.
أهلية المطالبة أمام
الكارثة الإنسانية الجارية
عندما صدر هذا النداء الإنساني من “مجلس السلم بالولايات المتحدة” كان عدد ضحايا عدوان الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني بغزة بحلول 30 أكتوبر نحو ثمانية آلاف شهيد، أما مع كتابة هذا المقال بعد خمسة أيام فقط فقد تجاوز هؤلاء الضحايا عشرة آلاف. كما زاد عدد الجرحى من 24 ألفا إلى 35 ألفا، وكذا ارتفعت بشكل مذهل أعداد العائلات المبادة والبيوت المهدمة، فضلا عن توسع عدوان الإبادة هذا بقصف المزيد من المستشفيات وسيارات الإسعاف وقتل الأطباء والصحفيين. وهكذا فنحن يقينا أمام وضع أشد كارثية على المستوى الإنساني من كل السوابق التي أشرنا إليها.
ويظل من المؤسف والمستغرب، ألا تخرج المطالبة بفرض حظر جوي لحماية الفلسطينيين في غزة حتى صباح السادس من هذا الشهر، وعلى ما هو ظاهر في الإعلام وشبكة الإنترنت، من غير هذه المنظمة وأخرى أمريكية أيضا تحمل اسم “التحالف الأسود للسلام”، وألا نجد صدى لهذا المطلب المشروع والحيوي والمنطقي والضروري العاجل بين صفوفنا نحن العرب، ولو اقتصرت المطالبة والحملات لأجله على خارج الأطر الرسمية.
وفي الظن أن رفع هذا المطلب والإلحاح عليه بدون تأخير من شأنه تحقيق أمرين، حتى لو بدا النزول به إلى أرض الواقع والفعل غير مرجح: الأول هو الضغط للتعجيل بوقف إطلاق النار، والثاني يتعلق بالتأثير في الخطاب والأداء الرسميين عربيا.
ولا يعرف المرء هل هناك فرصة أخيرة لحفظ ماء الوجه من داخل هذا النظام العربي سواء ببعض قواه الذاتية أو باستدعاء قوى دولية كالصين، من أجل فرض هذا الحظر من خارج مجلس الأمن أو التلويح الفعال به. وفي كل الأحوال، تظل المطالبة مشروعة ومنطقية. وعلى الأقل، لا تحرموا أنفسكم من شرف المحاولة.