“التغريبة الإسرائيلية” من سيكتب أشعارها؟!

لا تَسَلْ عن سلامتِه
رُوحه فوقَ راحتِه
بدَّلتْه همومُه
كفنًا من وسادتِه
هوَ بالبابِ واقفْ
والردى منه خائفْ
فاهدئي يا عواصفْ
خجلًا من جراءتِه
كلمات من قصيدة “الفدائي” للشاعر إبراهيم طوقان، طالما شنّفت آذاننا وأسالت دموعنا، ونحن نشاهد مسلسل “التغريبة الفلسطينية” للمبدعين وليد سيف وحاتم علي، الذي عُرض لأول مرة في العام 2004 عقب الانتفاضة الثانية، وقبيل شهور من جلاء الصهاينة بقرار أحادي عن غزة المحتلة منذ العام 1967.
جسّد “التغريبة الفلسطينية” -الذي أعيد عرضه مرارا في بعض الفضائيات- النكبة وما تبعها من نزوح فلسطيني من البلدات التي احتلتها العصابات الصهيونية إلى بلدات فلسطينية أخرى، أو حتى خارج فلسطين، وكان لغزة النصيب الأكبر من هؤلاء اللاجئين.
يريد جيش الاحتلال بعد هزيمته في معركة “طوفان الأقصى” تكرار تلك التغريبة مجددا مع أهل غزة الذين هم في غالبهم أبناء التغريبة الأولى، يواصل قصف بيوتهم ومدارسهم وملاجئهم ومخيماتهم على مدار الساعة ليجبرهم على تركها، والتحرك جنوبا نحو الحدود المصرية، بل والدخول إلى مصر لإقامة مخيمات لجوء جديدة فيها، وهو ما يرفضه الفلسطينيون قيادة وشعبا، كما ترفضه مصر الرسمية والشعبية.
وبدلا من نجاح موهوم في صناعة “تغريبة فلسطينية جديدة”، فإن الشواهد حتى الآن تؤكد أننا بصدد “تغريبة إسرائيلية”، سواء بإخلاء مستوطنات غلاف غزة أو شمالي الكيان (على الحدود اللبنانية) أو بهجرة عكسية متصاعدة هربا من كيان ظنوه جنة الله في الأرض، فإذا هو جحيم لا يطاق، وظنوه واحة الأمن والآمان، فإذ بهم يُتخطفون من أسرّة نومهم، وإذ بقبّتهم الحديدية تلين أمام صواريخ القسام، بل وتعيد صواريخها إلى داخل الكيان، وإذ بجدارهم العازل ينهدم بمعاول بدائية، ودباباتهم تحترق بـ”ولاعات بدائية”، وإذ بهم يضطرون إلى حمل السلاح الشخصي دفاعا عن أنفسهم بعد أن فقدوا الثقة في جيشهم وشرطتهم.
تغريبة ولو في فنادق
شاهدنا صورا لبعض صهاينة المستوطنات حاملين أمتعتهم انتقالا إلى مكان جديد، مهما كان هذا المكان حتى لو لم يكن مخيما مثل مخيمات الفلسطينيين، بل فندقا سواء ثلاثة نجوم أو حتى خمسة نجوم فهو “تغريبة”، لقد خرجوا من بيوتهم ومزارعهم وممتلكاتهم، وغالبا فإنهم فقدوا الأمل، وفقدوا الطمأنينة في العودة إلى تلك المستوطنات مجددا، ولن يحتفظوا بمفاتيح بيوتهم كما فعل الفلسطينيون، وسنجد من بينهم من يروي هذه التغريبة لتتحول إلى عمل فني يشاهده العالم بعد انتهاء المعارك.
ها هم الآلاف من الإسرائيليين يفرون من الكيان عبر المطارات والموانئ في أقرب طائرة أو سفينة، متجهين إلى الدول التي يحملون جوازات سفرها، وحتى الذين لا يمتلكون جوازات سفر دول أخرى فإنهم يسارعون لشراء جوازات سفر من دول الكاريبي وغيرها ليتسنى لهم مغادرة “أرض الميعاد”، وها هم يتخلصون من عقاراتهم وأصولهم الثابتة والمنقولة ليحملوا معهم فقط ما خف وزنه وغلا ثمنه، وقد اعترفت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية بهذه الموجة الجديدة للهجرة أو الهروب في تقرير لها بعنوان “محاربة حماس أو الهروب.. الإسرائيليون يفرون من البلاد خلال الحرب”.
الهجرة العكسية
الهجرة العكسية لم تعد محض قرار وتصرّف فردي، بل تنشط إحدى المجموعات المدنية وتُدعى (فلنغادر البلاد معا) في تشجيع الإسرائيليين على الهجرة، سواء كانوا يملكون جوازات دول أخرى أو لا يملكون، مع تقديم وعود لهم بفرص عمل في مهجرهم الجديد، ورغم أن تأسيس هذه المجموعة سبق طوفان الأقصى (مع تولي نتنياهو الحكم) فإنه تصاعد بشدة عقب العملية، إذ وجدت إقبالا على التعامل مع برامجها التي تشمل الهجرة إلى 48 دولة.
وتفيد بيانات رسمية لدائرة الهجرة بوزارة الداخلية الإسرائيلية بأن أكثر من 230 ألف إسرائيلي غادروا منذ بدء “طوفان الأقصى” واحتدام القتال على جبهة غزة، وتضم المجموعات المغادرة عائلات إسرائيلية ورجال وسيدات أعمال من أصحاب الجنسية المزدوجة، ومن يملكون جوازات سفر أجنبية.
موجة الهجرة العكسية أزعجت سلطات الاحتلال التي سارعت إلى تحذير الإسرائيليين من السفر خارج البلاد، مبررة تحذيرها بالأجواء العدائية المتصاعدة ضد السامية، ومستشهدة بما حدث في مطار داغستان ضد إسرائيليين فارين من الحرب، وبالعديد من الاعتداءات التي تعرّض لها بعض الإسرائيليين خلال زياراتهم لدول مختلفة، لكن تحذيرات السلطات الإسرائيلية ليست أقوى من صواريخ القسام على كل حال.
لعنة “العقد الثامن”
تتزامن “التغريبة الإسرائيلية” مع الحديث عن لعنة “العقد الثامن” التي تشغل المجتمع الصهيوني حاليا، سواء الساسة المدنيون وعلى رأسهم رؤساء وزارات مثل بنيامين نتنياهو وإيهود باراك ونفتالي بينيت، أو الحاخامات أو عموم الإسرائيليين، وهذه اللعنة هي نبوءة تلمودية يؤمن بها اليهود، ويبنون عليها الكثير من حساباتهم، وقد ذكّرهم الناطق باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” بها في أحد بياناته أخيرا.
تذكر النبوءة الواردة في العهد القديم أنه لم تقم لليهود دولة أكثر من 80 عاما إلا في فترتين استثنائيتين، هما فترة الملك داود (81 عاما) وفترة الحشمونائيم (77 عاما)، أي أن كلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن، وها هو الكيان الصهيوني يقترب سريعا من عامه الثمانين، وقد كان يمر بحالة تمزق داخلي قبل أن يجرفه طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يتطوع بعض الباحثين المتصهينين من بني جلدتنا لنفي النبوءات القرآنية عن زوال إسرائيل، ولعل الأفضل لهم أن يفندوا تلك النبوءات التوراتية، وفي كل الأحوال نحن لا ننتظر حتى تتحقق تلك النبوءات من تلقاء نفسها، بل إن ما حدث في طوفان الأقصى هو الدليل العملي على بداية الانهيار لكيان لقيط، وجسم غريب في بيئة لم ولن تقبله يوما.
مهما اشتدت الضربات الجوية والبرية والبحرية، وما خلّفته من شهداء وجرحى، ودمار واسع للمنازل والمنشآت، فإن ذلك كله لن يعيد إلى الصهاينة الغاصبين الأمن والطمأنينة مجددا، ولن يثنيهم عن خططهم للفرار من “أرض الخوف” التي كان يعُدونها من قبل “أرض الميعاد”.