“المسافة صفر” ردا على “ريموت كونترول”

جندي إسرائيلي يختبئ بينما تطلق وحدة مدفعية قذائفها من مكان غير معلوم بالقرب من حدود قطاع غزة (رويترز)

 

في العلوم العسكرية وفي تعليمات استخدام الأسلحة، هناك دائما ما يُعرف بالمسافة المثالية لإصابة الهدف، وهي المسافة التي يبلغ فيها المقذوف الناري مداه في قوة الانطلاق، والتي يحقق فيها أكبر قوة نيرانية، وكذلك يسبب أكبر خسارة.

والقتال من “المسافة صفر” تعني أنك تقريبا تقاتل وجها لوجه، لأنه لا مساحة لديك للتتبع والرصد والتدقيق ثم الإطلاق، وإنما أتى العدو إليك أو قمت أنت بمفاجأته، ولم يعد لديك خيار أو وقت للابتعاد لكي يحصل السلاح المستخدم على مسافة مثالية للإصابة بدقة أكبر والتدمير أكثر.

لسنوات طويلة تمنى الفلسطينيون وفي مقدمتهم رجال المقاومة المسلحة أن يقاتلوا عدوهم من قرب بعد أن كان يتحصن وراء الحدود، ويجعلهم هدفا دائما للقصف من بُعد باستخدام أحدث وأذكى الأسلحة التي تُمثل خلاصة ما أنتجته مصانع السلاح الأمريكية والغربية.

لم يكن لدى المقاومة الفلسطينية فرصة لاستيراد الأسلحة الباهظة الثمن مثل جيش الاحتلال الصهيوني، ولكن ظروف الحصار المفروض على قطاع غزة منذ سنوات جعلت المقاومة الفلسطينية تقوم بتطوير قدراتها شيئا فشيئا، وأن تقوم بتتبع نهج إسرائيل في إطلاق النار من بُعد، باستخدام الصواريخ التي كانت بدائية أولا ثم تطورت شيئا فشيئا حتى أصبحت تصل إلى كل حدود الكيان المغتصب المقام على أرض فلسطين التاريخية من حدوده مع لبنان في الشمال إلى صحراء النقب في الجنوب.

وسواء أكنت تعيش في الضفة الغربية أم في قطاع غزة، فأنت مراقَب بأحدث الأجهزة التي تجعل الموت يأتي إليك من الاتجاهات الأربعة، ومن فوقك ومن تحتك، دون وجود أدنى فرصة لمواجهة قاتلك والرد عليه بقوة السلاح.

الكابوس

يتخفى جنود الاحتلال الإسرائيلي وراء ترسانة محصنة تجعلهم في مأمن بعيدا عن الاشتباك المباشر مع المقاومة، سواء كانت منظمة أو عفوية، تعمل برد الفعل على الاقتحامات اليومية المتكررة أو الانتهاكات التي أصبحت ممارسة لحظية ممنهجة من قوات الاحتلال بمختلف الطرق، سواء تم ذلك على الحواجز التي تقطع أوصال الضفة الغربية وتمنع تواصل مدنها وتحوّل حياة سكانها إلى عذاب، أو في التجمعات السكانية المكتظة بمدن ومخيمات قطاع غزة الذي تجول في سمائه الطائرات المسيّرة، وتجعل أي فرد هدفا سهلا للقنص أو لهدم منزله بالكامل على رأسه هو وعائلته مهما كان عددها.

وعبر سنوات من الحصار، كانت كل مرة تيأس فيها المقاومة من أوضاع غزة المزرية، وتقوم بإطلاق صواريخ للتعبير عن الوجود والغضب من الظروف المعيشية غير الإنسانية، كانت إسرائيل ترد بقصف عنيف من بُعد، دون أن تتجرأ على قتال مباشر تخسر فيه فردا تراه مكلفا في جلبه من بين يهود العالم، أو في تدريبه وإبقائه بين جنود الاحتياط لسنوات.

كان الكابوس بالنسبة لجنود جيش الاحتلال الصهيوني هو أن يضطروا إلى قتال مباشر مع رجال المقاومة من “المسافة صفر”، حيث تكون فرصة الضبط والاستهداف معدومة، وتكون اليد العليا لعنصري السرعة والمباغتة.

العمليات الاستشهادية

لسنوات خلت، لجأت المقاومة الفلسطينية إلى العمليات التي نسميها “استشهادية”، ويطلق عليها الإعلام الغربي “انتحارية”، والتي كانت تُعَد انعكاسا طبيعيا لاستراتيجية القتال التي ينتهجها العدو، وهي القتل من بُعد وعدم السماح للعدو بالمسافة صفر.

وجد الفلسطينيون أن هذه العمليات قد لا تخدم القضية على المدى البعيد، حتى وإن كانت تحقق مكاسب على المدى القصير، فطوروا خلايا المقاومة التي تستخدم الأسلحة الخفيفة في الضفة الغربية، وتستخدم الصواريخ الموجهة أو غير الموجهة في غزة، إضافة إلى دخول سلاح جديد هو الطوربيد الذي يستهدف السلاح البحري لجيش الاحتلال الإسرائيلي.

ما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي هو أن الجدار الذي تتحصن وراءه قوات الاحتلال الإسرائيلي قد سقط تحت أقدام المقاومة، وأصبح القتال وجها لوجه من “المسافة صفر”.

عبر سنوات كانت المقاومة الفلسطينية تعُد أسر جندي واحد صيدا مهمّا، لكن الحاصل أنه في يوم السابع من أكتوبر حصلت المقاومة على كنز ثمين عندما نجحت في أسر نحو 250 من جنود جيش الاحتلال أو من المستوطنين في ما يُعرف بغلاف غزة. وكان ذلك نتيجة طبيعية، لأن المسافة أصبحت صفرا، حيث يستطيع المقاوم الفلسطيني أن يمد يديه ليشتبك ويقبض ويجر أسيره عائدا إلى غزة.

ما يعانيه القطاع المحاصر من نقص حاد في الأدوية والطعام وماء الشرب النظيف، وعدم وجود أفق واضح لحل سياسي، هي كلها ظروف فرضت على الفلسطينيين القتال من “المسافة صفر” مهما كانت هذه المسافة خطرة، ولا توفر فرصة لحماية كافية أو للحفاظ على الحياة، فقد استوى لديهم الموت بالحياة.

مطلب “المسافة صفر”

قطاع غزة المنكوب تعجز مستشفياته عن توفير الدواء أو حتى حفظ جثث الموتى، وتعجز مخابزه عن العمل وتقديم مجرد “لقمة عيش” بسبب عدم توفر الوقود، وتستهدف إسرائيل محطات المياه لتصبح شربة ماء مطلبا عزيزا في غزة المحاصرة.

ما كان يتمناه الفلسطينيون هو أن يتمكنوا من مجابهة عدوهم من المسافة صفر، وأن تطوله أيديهم بعد سنوات من استهدافهم عن بُعد، ليجدوا فرصة انتقام لآلاف الشهداء الذين سقطوا عبر سنوات.

كان القتال من “المسافة صفر” مطلبا ورغبة للمقاومة الفلسطينية، لكنه تحقق الآن بأثمان غالية وفادحة من الأرواح والممتلكات، وبحصار مضاعف وقتل وحشي لا يستثني الأطفال والنساء، ويهدم أحياء بأكملها ويحيلها ركاما في ثوان معدودة.

عشرات الآلاف بين شهيد وجريح ومفقود تحت الأنقاض كانت ثمنا لاختيار “المسافة صفر” التي رأت إسرائيل، ومن ورائها مجتمع دولي متواطئ، أنه عدوان وليس حقا للمقاومة الفلسطينية في الدفاع عن النفس.

صحيح أن الفلسطينيين دفعوا ثمنا باهظا فوق الطاقة والاحتمال من دماء زكية وبريئة، لكن الصحيح أيضا أن المقاومة الفلسطينية الباسلة فرضت على جيش الاحتلال الإسرائيلي بكل غطرسته وجبروته أن يهبط من أبراجه وقلاعه، وأجبرته على الاشتباك والخسارة من “المسافة صفر” بعد سنوات من التلذذ بقتل الفلسطينيين بـ”ريموت كونترول”.

المصدر : الجزيرة مباشر