المسافة صفر.. أهلًا بكم في “غزة”

آلية إسرائيلية (رويترز)

الأنفاس تضطرم والصدور تضطرب، ونسبة الأدرينالين في الدم ترتفع إلى حدودها القصوى، والعيون تمتنع عن الغمض، من شغفٍ لمتابعة ما سيكون، ومن فرط دهشةٍ مما هو كائن، فالدراما بلغت ذروة الإثارة.. إن ما يحدث حقيقي، لكنه فوق حدود الخيال، حتى لو كان خيال السينما الأمريكية الجامح، في سلسلة أفلام “رامبو” الشهيرة.

هكذا تفرّج العالم.. هكذا شاهد كيف دمَّر “فرد واحد” من مقاتلي كتائب “القسام” دبابة إسرائيلية في أقل من دقيقتين؟

خرج الرجل الذي لم يُعرف له وجه من مكمنه، يمشي واثق الخطوة، حتى بلغ مؤخرة الدبابة، فثبّت بيدين هادئتين خبيرتين، عبوة ناسفة على جسمها، ثم رجع بخطاه الواثقة ذاتها إلى حيث أتى، وما هي إلا عشر ثوانٍ تقريبًا حتى دوّى انفجار، علت بعده صيحة تكبير، استدار المقاتل فصوّب قذيفة إلى ما تبقى من الدبابة، ثم توارى عن الأنظار، من دون أن يترك دليلًا على أنه كان هنا، اللهم إلا حطام الآلية العسكرية الذي صار عصفًا مأكولًا، على رمال حي الزيتون في قطاع غزة.

انتهت العملية بنجاح ساحق، هكذا بمنتهى البساطة، مقاتل واحد يدمر دبابة بأقل الإمكانيات، وإن هذه البساطة السلسة ستغدو بغير شك أعقد ما ستكابده إسرائيل متى بدأت الحرب البرية.

ولعل حرص الإعلام الحربي لكتائب عز الدين القسام على توثيق العملية، ثم بثها على صفحاته الإلكترونية، موضحًا أن العملية الاستثنائية اختير لها عنوان: المسافة صفر، لم يكن إلا حراكًا في إطار الحرب النفسية التي تتفوق فيها المقاومة منذ مفاجأة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الثاني حتى الآن.

هذه بروفة الحرب البرية

دلالة “المسافة صفر” في حد ذاتها، ودلالة تسجيلها وبثها، وكذلك دلالة التسمية في غاية الأهمية، فالواضح أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أرادت أن تبعث برسالة إذلال إلى جيش الاحتلال: “هذه بروفة على الحرب البرية، فارتقبوا قتالًا شرسًا، لا قِبل لكم به، إنا ها هنا منتظرون، مقاتلونا سيخرجون كالأشباح من بين فروع الأشجار، ومن تعاريج الأزقة الملتوية، سيطلعون من تحت الأرض، وسيقصفون من فوق الأسطح، سيأتون من كل فج من فجاج غزة، يحدوهم الغضب وتسوقهم الرغبة في القصاص، حتى يحرقونكم حرقًا، فتعودوا إلى أهلكم في أكياس سوداء”.

المسافة صفر.. وإن المقاتلين قادرون على الاقتراب أكثر مما يظن جنرالات جيش الاحتلال، وأكثر مما تطيق قوات الجيش، وهذه رسالة “مخيفة” كذلك للجنود المنهارين نفسيًّا، بعد المذلة التي تجرعوها، حين عصف “طوفان الأقصى” بالثكنات العسكرية والمستوطنات، برًّا وبحرًا وجوًّا.

محتوى الرسالة: لا عاصم لكم من بأسنا الشديد، لن تحميكم الدبابات والمدرعات، متى قرر القادة العسكريون الإسرائيليون، أن يقذفوا بكم في أتون الحرب البرية، وإنّا لكم بالمرصاد.

لكن متى يجتاح جيش الاحتلال قطاع غزة؟

السؤال يبدو ملتبسًا مبهمًا، فمنذ إطلاق إسرائيل عملية “السيوف الحديدية”، لا يمر يوم من دون تصريح لواحد من ساستها السياسيين أو العسكريين، بأن الحرب البرية قاب قوسين أو أدنى، لكن الأمور “محلك سر”، والمواجهات العسكرية لم تغادر نقطة البداية، التي تتمثل في أن “إسرائيل تقتل ولا تقاتل”.

نعم.. منذ العدوان يقتل الإسرائيليون الفلسطينيين قتلًا عشوائيًّا، إذ يقصفون من الجو المستشفيات ودور العبادة والأحياء السكنية، مستغلين افتقار “حماس” إلى منظومة دفاع جوي قادرة على التصدي لأحدث الطائرات الحربية الأمريكية، في حين لم يجرؤ الجيش الإسرائيلي على القتال، ولم يواجه على الأرض، إلا في عمليات محدودة النطاق، يتقدم فيها قليلًا، وسرعان ما يتقهقر مدحورًا، أمام صلابة المقاومة وكفاءة مقاتليها.

وأغلب الظن أن جيش الاحتلال إنما يرمي من هذه التوغلات إلى تحقيق ثلاثة أهداف، الأول: رفع الروح المعنوية لجنوده، عبر تحقيق نصر معنوي ما، والثاني: الوقوف على جاهزية قوات المشاة والمدرعات على خوض حرب برية، ستكون بالضرورة شرسة وطويلة، والثالث: استكشاف مدى كفاءة مقاتلي كتائب القسام على أرض الواقع.

هكذا صارت إسرائيل “فُرجة العالم”

لكن أيًّا من عمليات التوغل البري تلك، لم يحرز شيئًا من الأهداف المرجوة، ففيما يتصل برفع معنويات الجنود، ها هي كتائب القسام “تُفرِّج العالم” على تهافت هذا الجيش وهشاشته، في فيديو تدمير الدبابة، وفيما يتعلق بالوقوف على كفاءة مقاتلي القسام، فالواضح أنهم على أعلى درجات الاحترافية، والقدرة على ضبط النفس، خاصةً عندما تصير المسافة صفرًا.

فضلًا عن ذلك، لم ينجح الجيش المدعم بأحدث الأسلحة، خلال عمليات التوغل كافةً، وقد بلغت سبعًا، في تحرير ولو أسير إسرائيلي واحد، أو أسر مقاتل قسّامي واحد، ولا في الاستقرار ولو لبضع ساعات، على مساحة “متر في متر”، فالتقدم يعقبه تقهقر أسرع، وكذلك لم يُنتزع أي نصر في معركة الصورة، فما من مواد يمكن بثها لإقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن جنوده مستعدون للمعركة المرتقبة.

وعليه فإن عمليات التوغل الإسرائيلية، لم تستر عورات حكومة بنيامين نتنياهو الذي صار يوصف إسرائيليًّا بأنه “الرجل الضعيف” ويجب الخلاص منه عاجلًا غير آجل.

إذن، إنه الفشل في عمليات التوغل، الذي يقف وراء إرجاء عملية الاجتياح، وهو فشل يستحيل على حكومة الطوارئ المشكلة حتى انتهاء الحرب الاعتراف به، ومن ثم تدفع بمبررات متضاربة بغرض ذر الرماد في عيون المعارضة المتحفزة، فحينًا تقول إن هناك مفاوضات لتحرير الأسرى لدى “حماس”، وتارة تدفع بأن الولايات المتحدة طلبت التريث، حتى تعيد نشر قواتها في الشرق الأوسط، وهو ادعاء نفاه البيت الأبيض نفيًا مباشرًا، فضلًا عن تأويلات بأن الجنرالات يريدون مد أمد الضربات الجوية، بغرض استنزاف قدرات كتائب القسام، بما يقلل الخسائر البشرية في صفوف جنودهم إلى أدنى درجة ممكنة.

تضارب التفسيرات لا يفضي إلا إلى أن هناك تخبطًا وتشوشًا، يهيمن على تفكير صانعي القرار، من السياسيين والعسكريين على حد سواء، كذلك يؤكد وجود صعوبات لوجستية، وإن كانت غير معلنة، وأغلب الظن أن نتنياهو “ورط نفسه” بتصريحاته المتسرعة بشأن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس” قضاءً مبرمًا، إذ يؤكد خبراء عسكريون استحالة تحقيق هذا الهدف نظرًا لعوامل معقدة.

رسائل “أبو عبيدة” تكشف المستور

وبينما تشكل هذه العوامل ضغوطًا على إسرائيل، فإن المقاومة رغم القصف العشوائي، ورغم فاتورة الشهداء الفلسطينيين الذين يقترب عددهم من عشرة آلاف، فضلًا عن الجرحى، تبدو في وضع معنوي ولوجستي أفضل، وهو الأمر الذي تبرزه الرسائل المصورة للمتحدث العسكري لكتائب القسام، أبو عبيدة، الذي يعمد إلى نبرة تحدٍّ، ويتوعد جيش الاحتلال بهزيمة مذلّة في غزة، وفي الوقت ذاته يضغط على نتنياهو بإعلانه صفقة “الكل مقابل الكل”، أي تحرير “كل” الأسرى الفلسطينيين البالغ عددهم وفق مركز المعلومات الفلسطيني “وفا” نحو 4 آلاف و800 أسير، مقابل “كل” أسرى عملية طوفان الأقصى وعددهم في حدود 250 على أعلى التقديرات.

في لهجة التحدي ضغط واستفزاز يستهدف استدراج نتنياهو إلى مواجهة برية، يبدو أن المقاومة تتوق إليها إذ ستجد فيها فرصة لتحقيق درجة ما من التكافؤ، خلافًا لعمليات القصف التي لا قبل لأسلحتهم البدائية بالتصدي لها.

وفي الصفقة المطروحة ضغط سياسي، يستهدف استثارة ذوي الأسرى الذين يحملون حكومة نتنياهو مسؤولية “فضيحة الجيش”، ويعتبرونها غير كفأة لخوض هذه الحرب المصيرية.

وعلى هذا النحو تسير الأمور، إذ يواصل طيران الاحتلال قصف المستشفيات ودور العبادة الإسلامية والمسيحية والأحياء المدنية، في إطار الاستراتيجية الإجرامية: “اقتل ولا تقاتل”، في حين تتقدم قوات المشاة والمدرعات من حين لآخر، تقدمًا محدودًا، ثم تولي الأدبار هربًا من نيران و”كفاءة وبسالة” المقاومة؛ مما يؤكد أن لا قبل لهذا الجيش بالحرب المباشرة التي شاهد العالم طرفًا منها في عملية “المسافة صفر”.

لكن مهما طال الأمد، فإن المواجهة البرية آتية، ومهما أرجئت فإن إلغاءها ليس واردًا، وإذا كان ما رأى العالم في “المسافة صفر” يعبر بحق عن كفاءة مقاتلي القسّام، فإن غزة قد تكون “محرقة” لجنود الاحتلال، وقد تصير متاهة يدخلونها فلا يعرفون مسالك الخروج منها.

المصدر : الجزيرة مباشر