من هيروشيما وناغازاكي.. إلى غزة شمالا وجنوبا

ما إن توقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بسبب الهدنة، وأصبح بمقدور كاميرات القنوات التلفزيونية التنقل والتصوير، حتى كانت الفاجعة، فاجعة الدمار الشامل، مظاهر دمار لم يشهدها العالم في العصر الحديث، نراها فقط في صور مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، نتيجة قصفهما بقنبلتين نوويتين في القرن الماضي، ربما أيضا في مدينة برلين الألمانية، التي قصفها طيران دول الحلفاء على مدى شهور طويلة، ولم يشهد العالم تكرارً لهذه المشاهد في العصر الحديث، أو في القرن الحالي على أقل تقدير.
الغريب أن هذا العدوان الذي أوقع حتى الآن نحو 15 ألف قتيل، فضلًا عن 8000 تحت الأنقاض، ونحو 40 ألف جريح، لم يستغرق أكثر من 48 يوما، وهو الأمر الذي يؤكد أننا أمام عصابة من الإرهابيين في صورة كيان محتل غاصب لم تتغير سلوكيات أعضائه منذ ما قبل نشأته، من خلال عصابات الهجانة والأرجون زفاي ليومي وغيرهما، تلك العصابات التي ارتكبت مذابح غير مسبوقة، ومع ذلك أصبح زعماء تلك العصابات الإرهابية فيما بعد قادة الكيان السياسيين، من أمثال مناحم بيغين وشيمون بيريز وإسحاق شامير وموشي ديان وغيرهم.
لكن المثير للانتباه، هو موقف كل من اليابان وألمانيا من الأحداث الجارية، وهما الدولتان الأكثر معاناة في الماضي جراء مثل هذا الدمار؛ ذلك أن الموقف الألماني كان مخزيًّا طوال الوقت، منذ إنشاء هذا الكيان، بسبب عقدة الاضطهاد التاريخية من جهة، وبسبب أنهم تخلصوا من هذا الوباء من جهة أخرى، ويخشون أن يعيد التاريخ نفسه بعودتهم مرة أخرى ولو جزئيًّا.
على العكس من ذلك كان موقف الدول التي عانت من الاحتلال بشكل عام، وسددت فاتورة كبيرة من أجل التحرر الوطني، أمثال جنوب إفريقيا واسكتلندا وإيرلندا، وحتى دول أمريكا الجنوبية، من أمثال بوليفيا وتشيلي وكولومبيا، إلا أن حالة الدمار في حد ذاتها، وأعداد الضحايا من الأطفال والنساء، لم تؤرق ضمائر الغرب على المستوى الرسمي، وهو ما يؤكد استمرار حالة الاستعلاء بين الأجناس، والعنصرية ونزعة الاستعمار والهيمنة، علمًا بأن معظم السلاح والذخيرة المستخدمة في العدوان كانت أمريكية وغربية، وهو ما ينفي عن هؤلاء وأولئك صفات التحضر والفضيلة والأخلاق بأي شكل من الأشكال.
كيان مدلل
أعتقد أن هذه الحالة التي عليها قطاع غزة الآن من دمار ودماء ونزوح، مقارنة بحالة اللامبالاة على المستوى الدولي -اللهم إلا تصريحات تلو الأخرى أو بعضًا من المساعدات الغذائية- هذه الحالة تعود بالعالم إلى الوراء قرونًا عديدة، منذ ما قبل الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية، أو ربما عالم الغاب الذي يفترس القوي فيه الضعيف، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أننا أمام كيان مدلّل ومحصّن، لم يحترم القوانين الدولية قط منذ ما يزيد على سبعة عقود، ولم يتعرض لأي عقوبات دولية من أي نوع، نتيجة الحماية المعلنة من قوى عظمى، تتوج دائمًا وأبدًا بالفيتو الذي بدا أنه صنع خصيصًا من أجل ذلك الكيان.
ما كشفت عنه الكاميرات من داخل قطاع غزة خصوصًا في شمال القطاع، لا ينبغي إطلاقًا التعامل معه بهذه الأريحية التي تتحدث الآن عن إعادة الإعمار والتبرعات والإغاثة وما شابه ذلك؛ فنحن أمام جرائم إبادة لا تسقط بالتقادم، ولا يجوز أن تسقط أبدًا، إلا أن الغريب في الأمر، هو أن الدول التي تطوعت وحملت على عاتقها مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية (جنوب إفريقيا، بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر، جيبوتي) ليس من بينها دولة عربية واحدة، وهي إشارة صريحة إلى حالة الوهن والاهتراء التي تمر بها البلدان العربية، بل إن جامعة الدول العربية أيضا لم تبادر بمثل هذا الموقف.
كأن العدوان مسلّم به
لنا أن نتخيل أن 22 دولة عربية لم تنتفض لدولة عضو في المنظومة العربية والإسلامية، بعد أن سقط على أهلها 40 ألف طن من المتفجرات، وهو ما يقارب ثلاثة أضعاف قنبلة هيروشيما النووية (15 طنا)، وهو أمر يثير دهشة المراقبين خارج العالم العربي، ولِمَ لا ومسيرات الاحتجاج ممنوعة في معظم البلدان العربية، كما أن رفع الأعلام الفلسطينية أيضا من الموبقات في بعض تلك الدول، مما جعل أحد وزراء الحكومة الإسرائيلية المتطرفة ينصح، من دون أي خجل أو إحساس بالمسؤولية، بإلقاء قنابل نووية على قطاع غزة، ذلك أنه يعي مسبقًا حجم أو ضآلة الردود العربية والدولية معًا.
على أية حال، تمتد الهدنة أو تنتهي، يتوقف العدوان أو يعود، نحن أمام مزيد من أطنان المتفجرات تنوي دولة الاحتلال إلقاءها على القطاع من جديد، هكذا تصريحات قادتهم اليومية، وهكذا هو مخططهم، إلا أنه في المقابل نجد أن الحوار العالمي والعربي معًا يدور حول مد الهدنة يومًا إضافيًّا، أو ساعات إضافية قبل استئناف القصف، وكأن العدوان أصبح أمرًا مسلمًا به، لا أحد يستنكره أو يسعى لإيقافه، على اعتبار أن تلك رغبة أمريكية غربية لا يمكن التصدّي لها، أو على اعتبار أن دولة الاحتلال خارجة عن السيطرة، وهو ما ينذر بمزيد من الدمار، ومزيد من القتل في المستقبل، وكأن العالم ينتظر بالفعل استخدام القنبلة النووية حتى يمكن إنهاء الحرب على غرار ما حدث في هيروشيما وناغازاكي!!
أي عالم، وأي حضارة، وأي أخلاق هذه التي تتعامل معها البشرية في الألفية الثالثة؟!