صدمة ثلاثية لـ”الحزام والطريق” تهدد مستقبل “بريكس”

الرئيس الصيني شي جين بينغ (غيتي)

تلقت الصين صدمات قاسية خلال الأيام الماضية. لم يكد قادتها يتنفسون الصعداء من رحلة العودة من الولايات المتحدة التي أسفرت عن اتفاق استراتيجي على إدارة الصراع في إطار تعايش تنافسي بين أكبر قوتين على الكوكب، حتى ظهر متحور جديد من وباء كورونا يهدد منشأ كوفيد-19 بالعودة إلى حالة الإغلاق الذي أغلق البلاد مدة 3 سنوات. خفضت وكالة “موديز” توقعاتها بشأن التصنيف الائتماني للحكومة الصينية من مستقرة إلى سلبية، مع أنباء عن ارتفاع خطير بمعدلات الديون وتوقع تباطؤ النمو من 4% إلى 3.5% حتى عام 2030.

جاءت الطامة بإعلان 3 دول كبرى مقاطعة مبادرة “الحزام والطريق” بعد أسابيع من احتفاء الصين بالذكرى العاشرة لإطلاق المشروع، الذي يراه الرئيس شي جين بينغ ونخبته، منارة الدولة الاشتراكية المتجددة، ومرآة القيم الصينية للشعوب المنضمة إليه، يدفع قدرات البلاد لتصبح أعظم أو معادلة لقوة الولايات المتحدة، بحلول عام 2049، الموافق لاحتفال النظام بالعيد المئوي للدولة الشيوعية.

تمرُّد ماركوس وميلوني

بعد مشاركته 23 قيادة دولية بقمة بيجين، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أخرج بونغ بونغ ماركوس رئيس الفلبين منذ أيام بلاده من عضوية المبادرة التي انضمت إليها منذ مولدها عام 2013. ألغت حكومة ماركوس الابن مشروعات بنية تحتية تمولها الصين بقيمة 5 مليارات دولار، بحثًا عن صفقات بديلة لدى اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي “أقل إرهاقًا لميزانية الدولة، وأكثر التزامًا بمواعيد التنفيذ”. انحدرت العلاقة بين بيجين ومانيلا إلى الحضيض منذ وصول ماركوس إلى الحكم، بعد فترة ازدهار طويلة مع سلفه رودييغو دوتيرتي الذي منح الصين امتيازات بحرية، مقابل ضخ 24 مليار دولار في مشروعات بنية تحتية.

أعلنت إيطاليا، الخميس الماضي، انسحابها من “الحزام والطريق” التي انضمت إليها عام 2019، لمدة 7 سنوات قابلة للتجديد، وسط احتفاء صيني هائل، التي حققت في حينه اختراقًا استراتيجيًّا بدمج دولة كبرى بمجموعة الدول الصناعية السبع وعضو رئيس بحلف شمال الأطلسي (الناتو) في مشروع تعُده واشنطن “حصان طروادة” لغزو الغرب.

أفصحت جورجيا ميلوني زعيمة حزب “إخوة إيطاليا” اليميني المتطرف عن عدائها التقليدي للصين، بعد مناقشة مستمرة منذ أغسطس/آب الماضي، بقرارها “تصحيح الخطأ الكبير” الذي أوقع إيطاليا ضمن مشروع “الحزام والطريق” الذي “لم يؤد إلى نتيجة تُذكر لمصلحتها، في حين زاد صادرات الصين إلى إيطاليا 3 أضعاف”. قال مسؤولون إن إيطاليا لم تتمكن من الحصول على قطعة من الكعكة الصينية التي وعدتهم بها، في حين كانت بيجين تخترق الموانئ والمنشآت الحيوية، مهددة أمنها القومي. وصف وزير الدفاع الإيطالي جويدو كروسيتو قرار الانضمام إلى المبادرة بأنه “عمل ارتجالي شنيع”.

انشقاق الأرجنتين

ظهرت الأزمة الكبرى مع تولي خافيير ميلي  قيادة الأرجنتين بدءًا من 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري. جاء اليميني المتطرف بقائمة وعود قطعها أمام ناخبيه الذين منحوه 56% من إجمالي الأصوات في انتخابات أجريت الشهر الماضي، أولها قطع العلاقات مع جميع الدول الشيوعية وعلى رأسها الصين والبرازيل، واستخدام الدولار عملة رسمية للبلاد، وإغلاق البنك المركزي، وخفض الإنفاق الحكومي.

فور فوز “خافيير” برئاسة الأرجنتين حصل على تهنئة من بيجين، التي تجاهلت الشتائم المتكررة في جولاته الانتخابية، واتهم فيها الحكومة الصينية بأنها “قاتلة” واستبدادية تقود “شعبًا غير حر”. لم تواجه الصين “خافيير” إلا بعد تأكيده في نهاية الأسبوع الماضي أن أول قرارات سيتخذها خلال الأيام المقبلة، وقف عضوية الأرجنتين بــ”الحزام والطريق” ورفض عضوية “بريكس”. وعدت قيادة “بريكس” خلال اجتماعها الأخير في جنوب إفريقيا، بضم كل من مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا والأرجنتين لعضويتها في يناير/كانون الثاني 2024. هنا تحركت الصين وأصدرت تحذيرًا بأن القرار “خطأ فادح في السياسة الخارجية للأرجنتين، لقطع علاقة مع دول كبرى مثل الصين والبرازيل”.

لا تبدي الصين قلقًا من “دولرة” خافيير لاقتصاد الأرجنتين، فقد قامت مطلع العام الحالي بمقايضة مالية بقيمة 18 مليار دولار لتعزيز “البيزو” ودعم الاحتياطي النقدي للأرجنتين، لوقف إفلاس الدولة الأكبر دينًا لصندوق النقد الدولي بنحو 50 مليار دولار.

تخشى الصين أن تفر دولة لديها ثروات زراعية وتعدينية هائلة من جعبتها. وردّت الأرجنتين إلى الصين 92% من فول الصويا و57% من لحوم البقر عام 2022، ولديها محاجر شاسعة من “الليثيوم” ومشروعات بنية أساسية تنفذها شركات صينية بتمويلات حكومية هائلة. لا تعكس نيات “خافيير” سياساته الراديكالية فقط، وإنما رؤية شعبية عَدَّت تحالف نظام “الحزب البيروني” السابق مع الصين لم يصب في مصلحة المواطنين الذين انهارت عملتهم، ويعانون تضخمًا تجاوز 140% في أكتوبر 2023، وأصبح 40% من شعب تعداده 45 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، في دولة هائلة المساحة والثروات.

صراع الأفاعي

تدفع الولايات المتحدة إيطاليا والفلبين إلى الخروج من دائرة الصين علانية، وتشجع انحراف رئيس الأرجنتين المتطرف في عشقه للأمريكيين والإسرائيليين، عن مسارات بيجين، في إطار الحروب الخفية بين الأفعى والتنين، إلا أن ظاهرة الابتعاد عن الصين أصبحت أكثر حدوثًا في عدد من الدول الإفريقية والأسيوية أخيرًا، بضغوط من النخب الشعبية.

ابتعدت 16 دولة من الاتحاد الأوروبي عن الصين، وتحولت نظرة الاتحاد من الصداقة إلى “نظام منافس” منذ عام 2019. تحرك “المظالم” حكومات ومواطنين، تعكس تآكل شعبية الصين لدى كثير من الشعوب، خاصة في دول الجنوب التي كانت تعُد الصين نموذجًا تنمويًّا يُحتذى به.

تبدلت نظرة النخب السياسية التي ترى في مبادرة “الحزام والطريق” مشروعًا لا يختلف كثيرًا عن النظام الغربي “الوسيتفالي” الذي أطاح مبدأ المساواة بين الأغنياء والفقراء، وكرس قبضة الغرب المتسلط على العالم، مع رفعه شعارات الصين نفسها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واستهداف الرفاه للشعوب. أصبح هناك وعي عام مبني على دراسات، بأن الأموال التي أنفقتها الصين على مدار عشر سنوات، بقيمة تريليون دولار، مخالفة لقيم الشفافية ومكرسة للاستبداد السياسي. رأت الشعوب أنها لم تستفد مما جنته النخب التي تدور في فلك بيجين طلبًا للقروض ومشروعات ضخمة أغلبها بلا عائد، يشوبها الفساد، بينما الناس يعانون المزيد من الفقر والتضخم والبطالة، وتجني الصين المزيد من الأرباح والنفوذ.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان