هل نثق في فتاوى دار الإفتاء المصرية؟!

دار الافتاء المصرية (منصات التواصل)

سؤال يتردد كثيرا من عدد من المصريين، سواء داخل مصر أو خارجها، وسبب السؤال: هو المواقف السياسية التي تتعرض لها دار الإفتاء، أو المفتين بوجه عام، سواء كانوا مفتين رسميين أو شعبيين، لكن السؤال يطرح بشكل أكثر وأوضح، عن المفتين الرسميين، ودار الإفتاء المصرية. بل إن كثيرا ممن يطلب مني الفتوى، أو من آخرين، ممن ليسوا محسوبين على دار الإفتاء المصرية، يخبرك أولا أنه لانعدام ثقته فيهم، فهو يتوجه إليك بالسؤال، مقدما كلامه بأنه سألهم، أو قرأ لهم فتوى في موضوعه، أو موضوع آخر فتوى، ولكن لا يطمئن إليها قلبه، ليس للفتوى من حيث تأصيلها، بل للجهة التي أصدرتها، بسبب الانطباع الذي لديه ولدى غيره عنها.

والخاسر الحقيقي في هذه المسألة: العلم، وضياع الحقائق العلمية بين الناس، والفتوى بوجه عام، والرمزية التي كانت تتمتع بها مؤسسات الفتوى والعلم في مصر، وهو نزيف كبير في رصيدها، يجب أن تستدركه الجهات القائمة على الفتوى، سواء الرسمية منها أو الشعبية، لأن الفتاوى التي جعلت هذا الحاجز بين الناس وفتاوى المفتين الرسميين، هي فتاوى قليلة جدا، لكن أثرها الإعلامي كبير، وصداها السياسي أكبر.

نسبة الفتاوى غير المرضية:

فلو رحنا ننظر على رصيد الفتوى في مصر، سواء في مؤسسة الأزهر، أو مؤسسة الإفتاء، سنجد كما هائلا من الفتاوى، فلا تخلو المجلات الدينية من ركن للفتوى، يجيب عن الأسئلة فيها علماء الأزهر والفتوى في مصر، أما الفتاوى الرسمية، والتي تصدر عن دار الإفتاء ومفتيها الرسميين، فقد جمع منها حتى الآن فقط: (54) مجلدا، أي: عدة آلاف من الفتاوى، وهو رصيد كبير لم تحظ به دار إفتاء في العالم العربي والإسلامي.

ولو قمنا بعمل إحصاء لهذه الفتاوى، سنجد الفتاوى ذات الإشكالية لدى الناس، أو التي أحدثت دويا هائلا، وشرخا بين الناس والإفتاء، سنجدها لا تتجاوز أصابع اليدين، أي أنها نسبة لا تكاد تذكر، لكنها تعلقت بمسائل ذات علاقة بالشأن العام، وشؤون الناس، ومالت ناحية السلطة، أو بررت لها، سواء كانت السلطة في ذاك التوجه مصيبة أو مخطئة.

كما أن بعض هذه الفتاوى تعلق بقضايا مبدئية نوعا ما، مما أعطى انطباعا عن هذه الفتاوى ومن أصدروها، أنها شيوخ سلطة، أو بالتعبير الشعبي: مفتي ملاكي، وذلك كي لا نقلل من أهمية هذه الفتاوى، فالفتوى مهمة صغرت أم كبرت، لما تعنيه مهمة المفتي، وهذه الفتاوى التي لا تنال رضا الناس، يعرضون عنها، ولا يأخذون برأي المفتي الرسمي فيها، وهذا أمر طبيعي ومفهوم.

واجبنا إنصاف فتاوى دار الإفتاء:

لكن الواجب علينا هنا في وضع الأمور في نصابها الصحيح، من حيث وضع فتاوى دار الإفتاء في مكانها الطبيعي علميا، وهو واجب يتعلق بمن يعارضون هذه الفتاوى من أهل العلم، ممن يصنفون بمعارضة النظام أو الدار وشيوخها، لأن قواعد العلم تقتضي الإنصاف، وتقتضي عدم إهدار هيبة العلم ومكانته، لخطأ صدر، أو لعدة أخطاء، فلا يمنع من بيان الخطأ الذي نراه في فتوى، أن نبين قيمة ما عداها من فتاوى وما أكثرها، لما تتسم به من العلمية والمنهجية.

وبحكم اطلاعي على كل ما أصدرته دار الإفتاء من فتاوى، للأمانة والحقيقة العلمية، فإن أكثر دار إفتاء على مستوى العالم الإسلامي، تتسم فتاوها بالمهنية، والتاصيل العلمي، والاعتماد على الأقوال الفقهية المعتبرة، هي فتاوى دار الإفتاء المصرية، فيما لا يقل عن تسعة وتسعين بالمائة من فتاويها، وموضع الخلاف في الفتاوى المسيسة، والتي بطبيعتها تخرج من المتصدر للإجابة تحمل جنوحا إلى وجهة نظر السلطة، لمن كان تبعا لها، أو ضد السلطة لمن كان يعارضها، إذا لم يكن لدى من يفتي رصيدا هائلا من القوة المعنوية، في أن يعلن برأيه، سواء وافق هوى السلطة، أو عارضها.

وإذا كان الفقيه يتعرض لضغطين، الأول: ضغط السلطة، وهو ما يعانيه من يتبوأ منصبا في ظل سلطة لا تسمح لمن يتقلدها بالاستقلال العلمي، أو ضغط العامة، وهو ما يتعرض له من في السلطة، أو من يعارضها، لأنه يخشى من سطوة الجماهير، فإن فقد تأييدها، يخاف من مخالفتها.

ومن الظلم البين أن نصم فتاوى دار الإفتاء بأنها ليست محلا لثقة الناس، أو السائلين، وينبغي ألا نكون شركاء في هذا الظلم، لأنه ما من إنسان ينتسب للعلم الحقيقي، إلا يرى في فتاوى دار الإفتاء عمقا فقهيا، وتأصيلا قويا للمسائل، سواء اتفقت معها في النتائج أم اختلفت، فهي فتاوى على كل حال، تكون في قضايا خلافية في معظمها، وإذا كان من في السلطة من أهل الفتوى، تمنعه علاقته بالسلطة من إنصاف المخالف، فالأولى بمن عافاه الله من ذلك، وتخفف من هذا العبء والضغط، أن يكون متحليا بهذا الإنصاف.

وعلى القائمين على أمر الفتوى الرسمية، أن يراجعوا الموقف من فتاوى انحازت للسلطة، دون النظر للدليل المعتبر، أو على الأقل أن تتسم بالقدر الكبير من التوازن العلمي المقبول، ومما يحمد مؤخرا لدار الإفتاء أن راجعت بعض هذه الفتاوى، بأن بدأت تنظر في الأخطاء الواردة فيها، وبدأت تعدل من الصيغ التي كانت تجعلها محرمة، أو موضع شبهة، وجعلت الدار متهمة بمثل هذه الفتاوى.

فتاوى فوائد البنوك نموذجا:

ومن هذه الفتاوى التي زعزعت ثقة الجماهير في الدار، فتاوى فوائد البنوك، وباعتقادي أن سبب ذلك هو الطريقة التي برز بها الشيخ سيد طنطاوي رحمه الله، حين عرضه للفتوى، ودفاعه المستميت عنها بشكل لم يتسم بالعلمية المطلوبة، فقد كانت ردوده على المعارضين لرأيه في الفتوى، لا تليق بمقامه كمفتي، فتارة يصفهم بأنهم سمكرية، وتارة بأنهم جهلاء، وتارة يقول لهم: أنا أخشاكم لله، وكلها إجابات لا علاقة لها بالفتوى، أو بالرأي العلمي المطروح، مثل هذه الردود أظهرت المفتي والدار بصورة مهزوزة، ومشبوهة للأسف.

لكن والحق يقال في هذه المسألة تحديدا، بدأت الدار في إجابتها فيما بعد تبحث عن شكل آخر، فذهبت تجعل البنوك تغير من صيغة العقد، فالعقد السابق هو عقد قرض أو وديعة، وهو عقد لا يسمح بالزيادة أو الربح، لطبيعة الحكم الفقهي للقرض والوديعة، فتحول العقد لاستثمار، وسواء اتفق المعارضون أم اختلفوا مع هذه الصيغة، إلا أنها صيغة خرجت بالمسألة من المحرم الذي لا خلاف فيه، إلى مسألة خلافية، تحتمل وجهتي نظر، إذا صح أن العقد تحول بالفعل لهذه الصيغة، وتم الالتزام بها.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان