رهان الهجرة الصهيونية بين مشروع المليون وحرب غزة

تشييع أحد الجنود الاسرائيليين (رويترز)

مع نهاية القرن العشرين، كان لدى إسرائيل مشروع لاستجلاب مليون مهاجر بحلول عام 2020 لمواجهة زيادة أبناء شعب فلسطين فوق أرضه المحتلة، وذلك على الرغم من موجات التهجير القسري للغالبية بدءًا من مذابح 1948. والحديث عن هذا المشروع لا يدخل في سياق “نظرية المؤامرة” التي لا نتبناها بأي حال، وهذا لأن هناك تصريحات ووثائق منشورة عنه حينها من جانب الحكومات الإسرائيلية والعديد من المؤسسات المعنية بالهجرة الصهيونية، وكذا كتابات لعلماء أكاديميين إسرائيليين متخصصين في الديموغرافيا مثل البروفيسور من أصل إيطالي “سيرجيو ديلا بيرجولا”، وهو بمنزلة “عمدة” هذه الدراسات في إسرائيل.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشر الموقع الإلكتروني للوكالة اليهودية وبالإنجليزية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2001 ملخصًا لتقرير وضعته مجموعة عمل برئاسة “آرثر نابارستك” تابعة لها يناقش احتمالات جلب مليون يهودي إلى إسرائيل، ويحذر من “تهديدات ديموغرافية” في حال عدم النجاح في تحقيق طفرة في الهجرة الصهيونية خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. وهو التقرير الذي ناقشه “مؤتمر هرتسيليا الثاني” خلال الشهر نفسه. كما كان “أرييل شارون” رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق قد تحدث باهتمام عن مشروع المليون مهاجر صهيوني في لقائه السنوي مع رؤساء تحرير الصحف العبرية بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2000. ولفت هذا الحديث انتباه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فنشرت ما تسرب عن الاجتماع من خلال تقرير لمراسلها “جويل غوتنبرغ” في الأول من ديسمبر 2000.

أما معهد “التخنيون” الشهير في حيفا فقد أعد دراسة مستقبلية في تلك الفترة بعنوان “مشروع إسرائيل 2020″، وأشرف على جانبها الديموغرافي الأكاديمي البارز “أرنون سوفير”، ووضعت سيناريوهات بشأن الحدين الأعلى والأدنى لتطور أعداد اليهود في العالم وإسرائيل، على ضوء حظوظ مشروع المليون مهاجر صهيوني، وكذا سباق الديموغرافيا مع الفلسطينيين، الذي تناولناه في المقال السابق.

نجاح في هدفين

وفشل اثنين آخرين

وباختصار على ضوء تحليل أهداف هذا المشروع، يمكننا القول بأنه حقق نجاحًا قبل “طوفان الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023” بالنسبة لهدفين اثنين: الأول هو أن تصبح إسرائيل التجمع الأول ليهود العالم متفوقة على الولايات المتحدة (الآن 7.1 ملايين مقابل 6.3 ملايين يهودي هناك). والثاني إبقاء فلسطينيي 48 تحت خط الأقلية دون 30%، وبما يحول دون تحوُّل إسرائيل بدون الضفة وغزة إلى “دولة ثنائية القومية” وفق المعايير الدولية وتحذيرات “ديلا بيرجولا”.

لكن مشروع المليون مهاجر صهيوني بين 2000 و2020 أخفق في تحقيق هدفين اثنين، هما: الاحتفاظ بأغلبية يهودية فوق كل أرض فلسطين (وقد عرضنا لهذا التحول وآثاره في المقال السابق)، وأن تستأثر إسرائيل بأغلبية يهود العالم، حيث لا يعيش بها اليوم إلا نحو 48% منهم، بمقتضى المعطى الإحصائي: 7.1 ملايين من إجمالي 15.7 مليون يهودي أو مدعي يهودية أو غير معترف بيهوديتهم من مؤسسات دينية إسرائيلية. وهذه هي معطيات حلول الذكرى الخامسة والسبعين لإنشاء إسرائيل في مايو/أيار 2022.

النتائج الأربع هنا بشأن مشروع المليون مهاجر هي انعكاس لحصيلة الأعداد السنوية للهجرة الصهيونية خلال العشرين سنة بين 2000 و2020. وقد استخلصنا من المعطيات الإحصائية وفق مصادرها الإسرائيلية المعتمدة أن هذه الهجرة على مدى عشرين عامًا لم تجلب سوى نحو 466 ألف مهاجر، وليس مليونًا كما كان مستهدفًا. ومع الأخذ في الاعتبار أن هذه الحصيلة الفعلية للهجرة الصهيونية تتأثر سلبًا وانخفاضًا بالهجرة العكسية خلال هذه السنوات، يمكننا -وفق ذلك- وضع رقم تقديري بأن حصيلة مشروع المليون انتهت إلى جلب نحو 350 ألفًا فقط.

حصيلة مصادر

الهجرة الخمسة

وماذا عن حصيلة المصادر الخمسة الرئيسية التي راهن عليها مشروع المليون مهاجر صهيوني حال انطلاقه؟ وللإجابة يمكننا اليوم استنادًا إلى المعطيات السنوية لمكتب الإحصاء المركزي بإسرائيل التوصل إلى عدد من النتائج، يتقدمها أن الهجرة الروسية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق سجلت الرقم الأعلى كما كان متوقعًا بنحو 243 ألفًا، وحلّت فرنسا ثانيًا بنحو 48.6 ألف مهاجر، ثم إثيوبيا ثالثًا بنحو 33.9 ألفًا، وجاءت الأرجنتين رابعًا بنحو 13.1 ألف مهاجر. وحلّت خامسًا وأخيرًا جنوب إفريقيا إذ لم تحقق جهود الهجرة الصهيونية منها إلا 4044 مهاجرًا فقط.

وعلى هذا النحو، يتبين أن الهجرة الصهيونية المعوَّل عليها من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في دراسات وتقديرات مشروع المليون عند انطلاقه بمتوسط 30 ألف مهاج سنويًّا في السنوات العشر الأولى للمشروع لم تحقق في المتوسط عن مجمل السنوات العشرين إلا نحو نصف متوسط هذا المستهدف. وهذا في حين أخذ مخزون يهودها في النضوب ليبلغ بحلول عام 2023 نحو 145 ألفًا، يتركزون بالأساس في روسيا المكون الأكبر في الاتحاد السوفيتي السابق. ولا توضح الإحصاءات الديموغرافية الإسرائيلية الحديثة أعداد اليهود في بقية جمهوريات هذا الاتحاد. ولعل هذا بمثابة دليل على قلة الأعداد وهامشية الجماعات اليهودية هناك، باستثناء أوكرانيا التي تحل اليوم ثامنًا بين الحضور اليهودي في دول العالم بنحو 40 ألفًا فقط.

الوزير يستثمر في

معاداة اليهود مجددًا

في 7 نوفمبر الماضي 2023 ووسط صخب دوران حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وبخاصة في غزة، أصدرت وزارة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية بيانًا لا ينبغي أن يمر مرورًا عابرًا. وفي هذا البيان تجنب الوزير “أوفير سوفر” الإشارة إلى التداعيات الفورية “لطوفان الأقصى” والحرب الممتدة في غزة على كل من الهجرة الصهوينية “العاليا” (أي الصعود بالعربية) والهجرة المعاكسة من إسرائيل “ليريدا” (أي الهبوط أو النزول)، لكنه شدد على أمرين:

الأول هو الفرص الكامنة أمام الهجرة الصهيونية مع صعود ما يسمى كذبًا وتزويرًا “معاداة السامية”، تجنبًا لاستخدام المصطلح الأصح والأدق “معاداة الصهيونية أو اليهود”، وتعدد أحداثها في المجتمعات الغربية، وذلك كرد فعل على حرب الإبادة والتهجير القسري “الترانسفير” الجارية على مدى 24 ساعة في غزة والضفة منذ 7 أكتوبر.

والأمر الثاني يفيد باتجاه رهان الهجرة الصهيونية الآن إلى اليهود من الولايات المتحدة وكندا، والأخيرة أصبح بها رابع تجمُّع يهودي في العالم تعداده نحو 394 ألفًا، في حين تراجع يهود الولايات المتحدة أخيرًا إلى المرتبة الثانية بعد إسرائيل بتعداد يبلغ نحو 6 ملايين نسمة. ويمكن قراءة هذا الرهان بوصفه محاولة لمعالجة أزمة الهجرة الصهيونية الراهنة باللجوء إلى اجتذاب المزيد من المهاجرين الأيديولوجيين المتطرفين من ضحايا التفسيرات العقائدية الصهيونية للديانة اليهودية.

ولعل النموذج المثال لهذه الفئة والمحفور في تاريخ المنطقة ويهود الولايات المتحدة هو الأمريكي الإسرائيلي الحاخام “مائير كاهانا” مؤسس جماعة “كاخ” الإرهابية في الثمانينيات، الذي تم اغتياله في 5 نوفمبر 1990 في “بروكلين” خلال إلقاء خطاب يحث فيه على الهجرة الصهيونية، ويبث دعايته العنصرية ضد العرب، وذلك بيد الأمريكي المصري “سيد نصير”.

وهذا التوجه في الهجرة الصهيونية نحو الولايات المتحدة وكندا يمكن تفسيره بالصعوبات المتزايدة أمام استجلاب اليهود بدوافع اقتصادية معيشية بالأساس، وبخاصة بعد هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر. وهذا الرهان الأمريكي الشمالي يختلف ويتمايز عما كان بشأن مصادر الهجرة الصهيونية في مشروع “المليون” من قبل، إذ كان التركيز بالأساس على اليهود من المصادر الخمسة المشار إليها هنا سابقًا.

وتفيد أيضًا المعطيات السنوية للهجرة الصهيونية من الولايات المتحدة وكندا معًا بين عامي 2000 و2020 بأن حصيلتها الإجمالية في البلدين بطول هذه الفترة هي 44 ألفًا و992 مهاجرًا، بمتوسط سنوي نحو 2250 مهاجرًا. وهكذا تأتي هذه الهجرة الأمريكية الكندية لتحتل المرتبة الثالثة خلال المدى الزمني لمشروع المليون مهاجر صهيوني بعد الاتحاد السوفيتي السابق وفرنسا وقبل إثيوبيا والأرجنتين وجنوب إفريقيا. ويُعَد هذا المعطى الإحصائي مع ضآلة الأرقام المسجلة قفزة لم تكن متوقعة عند انطلاق المشروع ولدى المبشرين به والساعين لتنفيذه.

الرهان الأمريكي الكندي

بمقالي “جيروزاليم بوست”

وتجاوبًا مع مجمل الأبعاد الديموغرافية للصراع على أرض فلسطين، ويبرز بينها حاليًّا مأزق الهجرة الصهيونية، يلفت النظر مقالان نشرتهما “جيروزاليم بوست” اليمينية خلال نوفمبر الماضي، وهي الصحيفة الإسرائيلية الأعرق والأكثر انتشارًا عند قراء الإنجليزية. ويروّج المقالان على نحو خاص لأهمية “العاليا” الآن من الولايات المتحدة وكندا، وكذلك المملكة المتحدة (حيث 312 ألف يهودي).

وفي المقال الأول بتاريخ 4 نوفمبر تحت عنوان “حان الوقت للعاليا: يجب انتقال المزيد من اليهود إلى إسرائيل في أعقاب مجزرة حماس”، يطالب كاتبه ضابط المخابرات السابق بالجيش “إريك متشلسون” بتقديم حوافز اقتصادية ومالية ومعيشية إضافية مغرية وغير مسبوقة للمهاجر الصهيوني، إضافة إلى استثمار مشاعر وحوادث “كراهية اليهود” في بلدانهم. لكن المقال يتغافل تمامًا تناول تأثير 7 أكتوبر وما بعده في سياق تصاعد المقاومة الفلسطينية على الأحوال الأمنية والمعيشية داخل إسرائيل وفي مستعمراتها/ مستوطناتها.

وفي المقال الثاني بتاريخ 16 نوفمبر تحت عنوان “هذه اللحظة قد تكون نقطة تحوُّل للعاليا من أمريكا الشمالية”، يرى الأكاديمي “جاكوب سيفاك” أن ما تسمى “معاداة السامية” ارتفعت الآن مع الحرب على غزة بنحو غير مسبوق في أنحاء العالم منذ “هولوكوست” الحرب العالمية الثانية، لكن الفرصة بالنسبة للهجرة الصهيونية تتمثل عنده في أن يهود الولايات المتحدة وكندا ممن لديهم دوافع أيديولوجية موالية للصهيونية والهجرة إلى إسرائيل سيصبحون الآن في عجلة من أمرهم، كي يترجموا معتقداتهم هذه بالقدوم إليها.

وأعتقد أن تصريح الوزير والمقالين كاشفان لداء الصهيونية المزمن: استغلال معاداة اليهود وما يطلق عليه خطأً “معاداة السامية” بهدف إجبار هؤلاء اليهود على الهجرة إلى إسرائيل، بل واصطناع وقائع هذا الاضطهاد خدمة لهدف الهجرة الصهيونية، ولدفع اليهود دفعًا إلى إسرائيل، ولو بممارسة الإرهاب الصهيوني ضد الجماعات اليهودية.

وهذا الداء واضح بالأصل في كتاب “الدولة اليهودية” لتيودور هرتزل، أو ما يمكن أن نطلق عليه “توراة الصهيونية”، إذ يتاجر بخرافة “اضطهاد اليهود الأبدي في كل مكان وزمان”، ومع تقديم الهجرة الصهيونية إلى “الدولة اليهودية” بوصفها الحل الوحيد. وكما جاء في عبارته التي تصف بؤس اليهود و”معاداة السامية” بأنها “البخار المحرك لآلة المشروع الصهيوني”.

وأثبت مؤرخون وشهود عيان بين الإسرائيليين أنفسهم تورط تل أبيب في هجمات استهدفت مراكز تجمعات اليهود في العالم العربي لإرهابهم ودفعهم للهجرة قسرًا إلى فلسطين المحتلة، كما هو الحال بالنسبة لهجمات بغداد 1950 و1951، وثمة كتابات مهمة توثق ممارسة هذا الإرهاب الصهيوني ضد يهود العراق للمؤرخ “آفي شلايم” ومن أرشيف الباحث والصحفي المحقق “باروخ نادال”. وقبل أشهر معدودة وفي صيف 2023، نشرت مجلة “الدراسات الفلسطينية” ترجمة عن العبرية لمقال علمي للباحثين “يهودا شناهف شهرباني” و”حنان حيفر” تحت عنوان “العنف في بغداد وعنف الأرشيفات” يستند إلى “نادال” وشهادات يهود عراقيين آخرين.

كيف يملأ الإرهاب الفجوة

بين الأيديولوجيا والحقائق؟

فهم مجريات ودوافع حرب الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر والمسكونة برغبة وآليات ورمزيات تستدعي “نكبة 1948” والتطهير العرقي والتهجير القسري “الترانسفير” لن تكتمل بدون الأخذ في الاعتبار الصراع على جبهة الديموغرافيا، ومستجداته التي ذكرنا جوانب منها. ومن آخر هذه المستجدات ما نشرته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في 7 ديسمبر الجاري، نقلًا عن معطيات لوزارة الهجرة والاستيعاب، بأن نحو 470 ألف يهودي غادروا إسرائيل (فلسطين المحتلة) منذ هجوم “طوفان الأقصى”، في حين انخفضت أعداد اليهود المهاجرين إليها بنسبة 70% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي 2022، وهو ما يؤكد القوانين الحاكمة للهجرة الصهيونية والهجرة المعاكسة بطول تاريخ الصراع.

وهكذا في هذه الأيام، يتجلى مجددًا بوضوح تحدي حقائق الديموغرافيا -فلسطينية ويهودية معًا- لأكاذيب الأيديولوجيا الصهيونية ومشروعها الاستعماري الاستيطاني الإحلالي. وبين الحقائق والأكاذيب تنشط آلة الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي، محاولة رأب هذا الانكشاف والصدع، وملء الفجوة المتسعة.

وهكذا يعيد “طوفان الأقصى” والمرحلة الجديدة من الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي الصراع في منطقتنا إلى حقائقه الأولى جغرافيا وتاريخًا وبشرًا، فهنا شعب فلسطين كان وما زال، وهذه هي أرضه، ولم تكن فلسطين “أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض” ولن تكون. ومن كان يتخيل بعد مضي هذه العقود أن تنشر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في عدد 9 نوفمبر 2023، تقريرًا يناقش حضور عبارة “فلسطين من النهر إلى البحر” في الولايات المتحدة نفسها، وتحت عنوان “النقاش يشتعل في الكونجرس وحرم الجامعات حول (من النهر إلى البحر)”.

ولعل ممارسة مختلف أشكال الإرهاب وبجنون ضد الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر يترجم مرة أخرى اصطدام هذا المشروع الاستعماري وليد رأسمالية أوروبا وتطورها إلى الكولونيالية الاستعمارية والأيديولوجية الصهيونية ودولتها العنصرية، التي تغتصب بالباطل تمثيل اليهود في العالم، بالحقائق غير القابلة للمحو أو النسيان، تلك الحقائق التي أعاد “طوفان الأقصى” والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته توكيدها وتمكينها من الحضور على جميع المستويات إسرائيليًّا ويهوديًّا وعربيًّا وعالميًّا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتب المقال مؤلف كتاب “رهان المليون السابع: اليهود والهجرة الصهيونية حتى 2020″، الصادر من القاهرة 2002 ودمشق 2006.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان