(عَ بَ رَ).. الفعل العربي الأخير!

لم تكن مجرد حرب معتادة بين جيشين وكفى، ولا صراعًا بين عدوين فحسب، ولا قتالًا من أجل استعادة الأرض فقط، ولا تنافسًا من أجل الزعامة والتناطح باختصار مخل، بل كانت مجمل “أفعال لازمة” في مقابل “أفعال متعدية” تحكمها قاعدة -غير نحوية- تقضي بتسكين الغاصب ووقف حركته، وكسر ذراعه الطويلة، ومنع عملته الزائفة من الصرف.
كان ما جرى بعد ظهر ذلك اليوم الخالد هو بحث حثيث عن الكرامة التي توارت منكسرة من قهر الرجال، فامتدت تخبئ شارات الجنود ورتب الضباط الذين عادوا من الجبهة تشيعهم أحاسيس العار بدلًا من أن تزفهم أكاليل الغار.
العبور الأول
كان ما حدث بعد ظهر العاشر من رمضان في ذلك العام البعيد قبل نصف قرن كامل عملًا غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث، من حيث إحكام التخطيط واتباع دروب العلم في تدريب الجند، واستيعاب العتاد، وإزالة السواتر، وهدم التحصينات، وإعمال الخداع، وكذلك في توحيد الكلمة وشد الأزر، واستغلال الأدوات المتاحة وهي كثيرة، وكان أن أصبح النفط سلاحًا يستطيع به العربي أن يمنع ويمنح، وأن يرفع الصوت الخفيض، وأن يتباهى قائد عربي بأنه لا يكترث إذا عاد إلى خيام البدو، ويراها عزًّا لا يدانيه شيء من مكتسبات الدخول في “بيت الطاعة” الغربي.
قبل ذلك اليوم المجيد بسنوات ست، خسر العرب أراضي مترامية تشمل سيناء المصرية والجولان السورية وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس ومناطق في جنوبي لبنان، في حرب خاطفة انهارت فيها الجيوش العربية سريعًا في سخرية جعلت الدولة الصهيونية تسميها “حرب الأيام الستة”.
كان ما حدث في “يوم الغفران” سنة 1973 استغفارًا عسكريًّا واجبًا عن ما ألفينا عليه قادتنا من هزال وترنح صباح يوم الخامس من يونيو، وكان لا بد من جبر لعثرات الكرام التي تكدست وتكاثرت حتى أنجبت بجراح دامية خزيًا عُرف إعلاميًّا بـ”نكسة 67″.
كان واجبًا أن يراق على أرضنا الدم خلال سنوات الاستنزاف، كي ننتفض ليسلم أخيرًا ذلك “الشرف الرفيع” من الأذى.
كان ما حدث في العاشر من رمضان رتقًا للأثواب التي مُزقت، وإعادة بناء للجدران التي سقطت، وترميمًا للأعمدة التي تصدعت، ونصبًا لخيام الرجولة، كي يستتر الجسد بعد أن تعرى دونما ذنب سوى تخاذل الحراس وخيانة الأمانة.
كانت عودة الكبرياء لازمة كي تكفكف دموع النساء، وتَهدأ صرخات الثكالى على رجال أشداء دفعوا حياتهم، وسلاحهم بأيديهم، دون أن يتمكنوا من إطلاق رصاصة واحدة على قاتليهم من ضعف القيادة وتشرذمها.
عبر الجنود وهم يزأرون في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، فهطلت الكرامة زخات زخات في كل شارع عربي، ثم ارتفعت الرايات فأمطرت ودلفت إلى الأزقة والحارات، وتسللت إلى البيوت، وسكنت في مخادع النوم وصحون الطعام، وعلقت بالجدران ودرج الصعود، وانغرست كسيف في جبهة الصحراء، وعانقت الضفاف والمحاجر، وتوسدت زنود العمال، ونبتت تحت فؤوس الفلاحين، وفي كهوف المناجم، وسبحت مع الأنهار وعلى شطآن البحار، وامتطت قمم الجبال، وملأ شهيقها الصدور، فارتقت الهامات بعد انتكاس وخزي، ورفرفت الراية التي قهرها الساري أسفله طويلًا لتنتشي مجددًا مُحلقة من وتين القلب إلى حدود الوطن.
الهواء عربي
عبر الجنود المصريون مانع قناة السويس الصعب في قوارب يملؤها هواء عربي، ووطئوا بأقدامهم خط بارليف، فخرَّ أمامهم صَعِقًا في أعماق مياه القناة، وهجم السوريون على تحصينات العدو ومراكزه في هضبة الجولان، ولم يكونوا وحدهم، فقد كانوا مدججين بسواعد عربية أصيلة من بغداد إلى الرباط تجدف مع المصريين في القناة وتدفع مع السوريين في الجولان، لا بالبيانات النارية والخطب الحماسية فقط، ولكن بالمال عندما عز المال، وبالسلاح عندما شح السلاح، وبالرجال عندما كان هناك رجال.
الفضل إلى أهله
أنور السادات، قائد مصر وقتها وصاحب قرار الحرب، قال إن جانبًا كبيرًا من الفضل في الانتصار الذي حققته مصر في حرب أكتوبر -بعد الله عز وجل- يعود إلى رجلين اثنين هما الملك فيصل بن عبد العزيز عاهل السعودية، والرئيس الجزائري هواري بومدين.
ولم يبخل العرب يومئذ على أنفسهم بلحظات نادرة للفخر، فكان أن أقامت السعودية جسرًا جويًّا لنقل آلاف المقاتلين إلى الجبهة السورية بمعداتهم، وكان أن تزعَّم ملكها فيصل بن عبد العزيز قرار تخفيض إنتاج البترول العربي، ثم قطعه نهائيًّا عن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاء إسرائيل، ثم قدَّم 200 مليون دولار دعمًا للمجهود الحربي، ومع ذلك رأى الملك فيصل أن ما تقدمه بلاده هو أقل مما تقدمه مصر وسوريا من أرواح جنودها في معارك الأمة المصيرية، ومُلمحًا في رسالة ذات مغزى “لقد تعودنا على عيش الخيام، ونحن على استعداد للرجوع إليها مرة أخرى وحرق آبار البترول بأيدينا وألا تصل إلى أيدي أعدائنا”.
وكان أن أعطى الرئيس الجزائري هواري بومدين شيكًا مفتوحًا إلى الاتحاد السوفيتي لشراء السلاح للقاهرة ودمشق قبل الحرب، كما قدَّم 200 مليون دولار بعد الحرب، ولم تكتف الجزائر بالدعم المادي وإنما شاركت بأكثر من ألفي جندي وضابط وبفيالق دبابات وأسراب تضم خمسين طائرة.
من المحيط إلى الخليج
وكان أن شاركت وحدات من الجيش العراقي هي الأكبر عددًا بين كل الدول العربية المشاركة بعد مصر وسوريا.
وقبل الحرب بنحو ستة أشهر، أرسل العراق سربًا من الطائرات إلى الجبهة المصرية، وفور بدء القتال أرسلت بغداد مئات الدبابات وثلاث فرق مشاة إلى سوريا، وفرقتي مدرعات ومشاة إلى مصر.
واشتبكت القوات البرية العراقية مع العدو الصهيوني، وأسهمت بوضوح في منع احتلال دمشق، وارتقى على أطرافها مئات من الشهداء.
وكان للشيخ زايد آل نهيان أول رئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة دور تاريخي في دعم قرار قطع البترول عن الغرب، ولم يكن مضى على تأسيس بلاده عامين، لكن موقفه كان حاسمًا في حشد وبلورة موقف خليجي مع السعودية والكويت وقطر والبحرين ضد الدول الداعمة لإسرائيل، عندما قال “النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي، وكرامة العربي هي الأغلى، والدم العربي هو الأشرف، ودونهما يرخص المال والثروة”.
وكان أن خصصت ليبيا بزعامة معمر القذافي مئات الملايين من الدولارات لتسليح الجيشين المصري والسوري، غير لواء مدرع وعدد من أسراب الطائرات.
وكان أن أرسلت السودان فرقة مشاة إلى الجبهة المصرية.
وكان أن أرسلت الكويت طائرات حربية إلى مصر، وقوة برية متنوعة ولواءً كاملًا اشترك في حماية دمشق ثم التحق بالجيش السوري في الجولان، إضافة إلى المشاركة في قطع البترول عن داعمي إسرائيل.
وكان أن أرسلت تونس إلى مصر كتيبة مشاة قبل الحرب وعددًا من الطائرات.
وكان أن شاركت القوات الأردنية في الحرب على الجبهة السورية بإرسال ألوية مدرعة.
وكان أن أرسلت المملكة المغربية لواء مشاة إلى الجبهة السورية وطائرات ودبابات.
وكان أن أغلقت اليمن مضيق باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية.
وكان أن شهدت البحرين حملات للتبرع بالأموال والدم، وأوقفت ِتصدير البترول إلى الغرب ثم أنهت منح تسهيلات للبواخر الأمريكية في موانئ البحرين.
وكان أن نشطت المقاومة الفلسطينية لشغل جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
العبور الجديد
وبعد خمسين عامًا من الفعل العربي الأهم في تاريخ العرب الحديث، وفي السابع من أكتوبر 2023، تم عبور جديد قادته فصائل المقاومة الفلسطينية، لكنه لم يكن لقناة السويس وإنما للجدار الذي يحاصر قطاع غزة، مستلهمًا روح أكتوبر في يوم الغفران أيضًا، ليشيعوا الفوضى في المستوطنات القريبة ومعسكرات جيش الاحتلال الصهيونى.
عبر الفلسطينيون وحدهم هذه المرة دون شريك أو سند، ودون شيكات مفتوحة أو محدودة، ودون سلاح سوى ما صنعته أيديهم في الخفاء، ودون جسر جوي أو إمداد بري من أي دولة عربية، ودون غطاء من الساسة أو حملات للمجهود الحربي أو حتى غير الحربي.
العبور الجديد مختلف في كل شيء، فمن تخطيط استمر أعوامًا بدأب إلى اقتناص الغفلة والاسترخاء في ساعات القنوط من الحصار، ومن صورة الأسرى الإسرائيليين الذين يرتدون “الكاستور” إلى صورة رجال فلسطينيين قُيدوا عراة منكسي الرؤوس في مشهد يزلزل كبرياء الرجال إن وُجدوا.
ومن الأسلحة المتدفقة إلى المعونات المتباطئة، ومن خطاب عربي قوي وواضح إلى الكلمات المائعة، التي تمشي على استحياء ولا تعني شيئًا، ومن الالتفاف حول إذاعة “صوت العرب” لسماع أخبار القتال بلهفة إلى متابعة معتادة لمشاهد تدمير البيوت وقصف المستشفيات وآلاف الجثث وآلام المصابين، وترويع الأطفال والنساء دون أن يهتز جفن للعالم الذي “يحترم حقوق الإنسان”.
ومن قطع البترول عن أعوان إسرائيل في جرأة وتحد إلى قطع الكهرباء عن غزة لتتوقف شرايين الحياة من ماء واتصالات، ومن البحث عن الكرامة إلى البحث عن كسرة خبز.
هناك فروق شاسعة بين ما حدث في السادس من أكتوبر وما حدث في السابع منه بعد خمسين عامًا، فلا يملك العرب الآن سوى التصفيق وربما إطلاق صفارات الإعجاب لرجال المقاومة، ويرون ذلك كافيًا، مع سيل من بيانات التنديد والشجب والإدانة لتسوية أبنية غزة بالأرض، في حين غاب العوام عن المشهد وهم يفرون من العوز والحاجة، ويطاردون أساسيات الحياة دون أن يجدوها، ليصبح المسكوت عنه كثيرًا كثيرًا.
وخلال خمسين حولًا تغيَّر القادة وتغيرت الشعوب. مات الكبار وتحكم الصغار. غابت الحكمة وحضر الاستعراض. ولم يعد بالإمكان سوى الاعتراف بأن ما جرى في سيناء والجولان كان آخر الأفعال العربية التي يمكنك أن تجدها بالقاموس في مادة (عَ بَ رَ) وأن ما جرى في غزة المقاومة ستجده في صفحة غير بعيدة تصنيفها (خَ ذَ لَ).