هل جرف “الطوفان” حلم الدولة الفلسطينية؟

رغم مرور أكثر من 75 عامًا على النكبة الفلسطينية التي انتهت بقضم العصابات الصهيونية لغالبية أرض فلسطين التاريخية، وإقامة الكيان الإسرائيلي عليها، ثم احتلال ما تبقى عقب نكسة 1967، (وإن عادت الضفة والقطاع إلى حكم ذاتي فلسطيني ناقص السيادة عقب اتفاقات أوسلو) فإن الحلم الفلسطيني بإقامة دولة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف ظل نشطًا طيلة العقود الماضية، لم يَخبُ يومًا، رغم كل ما تعرض له من ضربات وانتكاسات وانكسارات.
حين وقعت معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي نجحت كتائب القسام في دخول مستوطنات غلاف غزة في مشهد بدا كأنه تحرير لتلك المستوطنات، بخلاف النتائج الأخرى من قتلى وأسرى وغنائم عسكرية بينها كنوز معلوماتية، في تلك اللحظات انتعش الحلم بقوة، مع تحطيم المقاومة لنظريات الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والحاجز الذي لا يتحطم، والقبة التي لا تُخترق، لكن العدوان الإسرائيلي، واجتياح غزة، واستشهاد 18 ألف فلسطيني حتى الآن مع الدمار الواسع لمباني القطاع ومنشآته، وتهجير أكثر من مليون من سكانه، طرح السؤال: هل جرف الطوفان حلم الدولة الفلسطينية؟ إذ يرى من يطرحون هذا السؤال أن ما حدث يوم 7 أكتوبر رغم عظمته فإنه تسبب لاحقًا في كل النتائج السابقة (شهداء- مهجَّرين- دمار)، وأنه ربما تسبب في تراجع حلم الدولة المستقلة، أو حتى تحطيمه حال -لا قدَّر الله- هزيمة المقاومة التي تواجه جيشًا هو الأقوى في المنطقة مدعومًا بإمدادات عسكرية مفتوحة من واشنطن والعواصم الغربية.
صهاينة العرب
الحقيقة أن الذين يروّجون ذلك هم صهاينة العرب، ومن بينهم أصوات فلسطينية تماهت مع الحلول الاستسلامية طيلة العقود الثلاثة الماضية، وسخرت كثيرًا من صواريخ المقاومة ومسيَّراتها وقذائفها، هؤلاء الصهاينة العرب يتولون نشر دعاية العدو نيابة عنه، ويطعنون في المقاومة، ويُسخفون من انتصاراتها، في مقابل تضخيم حجم الخسائر الفلسطينية التي يتهمون المقاومة وليس العدو بالتسبب فيها.
لا ينكر أحد أن حجم الدمار وأعداد الشهداء والمهجَّرين كثيرة، لكنه يظل ثمنًا مقبولًا في طريق التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فثمن الحرية كبير، وقد دفع الشعب الجزائري أكثر من مليون شهيد في حرب التحرر من الاستعمار الفرنسي الذي استمر 130 عامًا، كما دفع الفيتناميون عددًا مماثلًا في حربهم للتحرر من الاستعمار الأمريكي، وكذا دفع الشعب الأفغاني في جهاده ضد الروس والأمريكيين.
إحياء الحلم
طوفان الأقصى لم يجرف الحلم ولكنه أحياه، فقد كانت القضية الفلسطينية في طريقها إلى الموت الكامل، حصار متصاعد للسلطة الفلسطينية في الداخل، حصار خانق على قطاع غزة، تهويد مستمر للقدس والمسجد الأقصى، تلاشي الحديث عن حل الدولتين حتى في أبهت صوره، تهافت عربي على التطبيع مع الكيان دون ثمن، حتى المبادرة العربية التي أقرتها الجامعة العربية في بيروت عام 2002، والتي وضعت معادلة “الأرض مقابل السلام”، تم نسيانها، وحل محلها المعادلة الإسرائيلية “السلام مقابل السلام”، هكذا كان وضع القضية الفلسطينية قبل طوفان الأقصى، فماذا حدث بعده؟
بعد الطوفان، توقف قطار التطبيع، وتصاعدت التحركات الشعبية لمواجهته في البلدان المُطبّعة، انتعش حلم الدولة المستقلة، عاد الحديث العالمي عن حل الدولتين مجددًا، بل عاد الحديث عن التحرير الكامل لفلسطين من البحر إلى النهر، وإقامة الدولة المستقلة على كامل الأرض الفلسطينية، تصاعدت المقاطعة للشركات الداعمة للعدو، وأصبحت المقاطعة ثقافة شعبية حتى للأطفال الصغار وربات البيوت، انتفضت الشعوب الحرة في الشرق والغرب دفاعًا عن الحق الفلسطيني ورفضًا للعدوان الإسرائيلي، عادت مشاعر الخوف والهلع إلى الإسرائيليين، وبدأ الكثيرون منهم بمغادرة الكيان الذي كانوا يعُدونه أرض الأحلام والأمن والاستقرار، تطاردهم لعنة العقد الثامن التي تنبئ بزوال دولتهم، تصاعدت روح العداء للإسرائيليين في أرجاء العالم، ولم يعد السائح أو الزائر الإسرائيلي مطمئنًا على نفسه على عكس ما كان قائمًا قبل الطوفان، إذ كانوا يسرحون ويمرحون في العديد من العواصم العربية دون خوف.
مقاومة متصلة ومستمرة
النضال الفلسطيني لم يتوقف يومًا منذ وعد بلفور، لم يبدأ بالطوفان ولن ينتهي به، كما أن الطوفان لن يحرر فلسطين على الفور، لكنه بالتأكيد أعاد الأمل في التحرير الكامل، لم تكن “حماس” -التي تحتفل بذكرى انطلاقتها السادسة والثلاثين في 15 ديسمبر/كانون الأول- فاتحة المقاومة الفلسطينية ولن تكون منتهاها، فقد سبقتها ولحقتها على الطريق حركات أخرى، وهنا نتذكر معارك وجولات سابقة بدءًا من ثورة البراق عام 1929 التي كانت أول انتفاضة ضد تهويد القدس، ثم ثورة القسام 1935 (الذي تنتسب إليه كتائب حماس) ثم الثورة العربية عام 1936، وصولًا إلى الانتفاضة الأولى عام 1987، والثانية عام 2000، والانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة بسبب ضراوة مقاومتها عام 2005، وانتفاضة القدس عام 2021، وما تخلل تلك الفترات من عمليات مقاومة متنوعة، من كل الفصائل الفلسطينية، وبالتأكيد ستستمر المقاومة مهما كانت الحركة أو الحركات التي تقودها حتى تحقق حلمها.
تخلصت منطقتنا من الاستعمار الأجنبي منذ منتصف الأربعينيات، ولم يتبق سوى فلسطين التي منحها المستعمر السابق (بريطانيا) إلى مستعمر جديد (العصابات الصهيونية)، ولم يتوقف النضال سواء ضد المستعمر القديم أو الجديد، ولن يتوقف حتى تحرير فلسطين، وإقامة الدولة المستقلة الكاملة السيادة، وليست المنزوعة السلاح كما يريد الكيان أو حتى كما يريد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي طرح هذه الفكرة عام 2018، وتبنتها بعده بعض الأنظمة العربية، فلا قيمة لدولة منزوعة السلاح، ولا قيمة لوطن منزوع السيادة.