ثقافة الاعتذار.. من كلينتون إلى بايدن

(1) القائمة السوداء
يوم الثلاثاء الماضي، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرارا بالأغلبية يطالب بوقف إطلاق النار في غزة لدواع إنسانية، وافقت على مشروع القرار 153 دولة وامتنعت 28 دولة عن التصويت في مقدمتها بريطانيا الحليف التاريخي لإسرائيل وأمريكا، ورفضت 10 دول مشروع القرار. تلك الدول تمثل القائمة السوداء ضد الإجماع العالمي الذي يجد أن حرب إسرائيل على غزة تُصنَّف إبادة عرقية وليست حربا ذات أهداف عسكرية محددة. لا أعرف المشترك بين دول القائمة السوداء لكن بالتأكيد أن هذه الدول تؤمن بأن القوة فوق الحق، وأن حقوق الإنسان في العالم غير متساوية. ستظل هذه القائمة في ذاكرة التاريخ برهانا على المعايير المزدوجة وبلادة الحس والضمير الإنساني والخروج عن الاجماع الدولي.
أمريكا لا يمكنها استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرارات الجمعية العامة، لكن هذه القرارات غير ملزمة عكس قرارات مجلس الأمن، وإنما هي دليل على توجه الرأي العام العالمي، ويمكن أن تكون بوصلة لقرارات وسياسات تتخذ مستقبلا، فمهما كان لديك من قوة فأنت في النهاية تحتاج إلى مسوغات أخلاقية لاستخدامها وبالذات في حال دولة عظمى مثل أمريكا، حتى لا تبدو مثل العصابات والخارجين عن القانون الذين يمارسون البلطجة مستندين على ما لديهم من مخزون أسلحة وطلقات رصاص.
(2) السير فوق الرمال الناعمة
جماعة الحوثيين، المدعومة إيرانيا، قررت أن تحاصر إسرائيل ردا على حصار الأخيرة لغزة وأهلها، وذلك باستهداف السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني عبر مضيق باب المندب، وبالفعل استهدفت بصاروخ سفينة تحمل العلم النرويجي. انتقال الحرب ونيرانها من غزة إلى مناطق أخرى في الإقليم هو آخر ما تسعى إليه أمريكا، وهو ضد المصالح الأمريكية والمجتمع الدولي برمته، فتكلفة حرب غزة ستتضاعف، وستضاف إلى تكلفة الحرب الأوكرانية الروسية، وشعوب العالم ضجت من تحمل تبعات حروب ليس لها فيها ناقة ولا جمل، ورغم ذلك تدفع فاتورة الغطرسة والرغبة في السيطرة والهيمنة من قوتها اليومي وهو ما يضاعف تكلفة المعيشة وكذلك التمرد على الحكومات وخاصة في الدول الديمقراطية.
جميع دول العالم تدرك حجم القوة العسكرية الأمريكية وتنأى بنفسها عن الدخول في حرب مباشرة مع واشنطن، لكن تاريخ العسكرية الأمريكية أيضا ينبئ بخسائر أمريكيا في حروبها مع جماعات مسلحة غير نظامية، كما حدث في فيتنام والعراق وأفغانستان. الجيش الأمريكي مدجج بأحدث أنواع الأسلحة، وجنوده ذوو تدريب عال، ويتحركون تحت غطاء جهاز مخابراتي هو الأقوى في العالم، إضافة إلى المدد السريع بسبب انتشار القواعد والمنشآت العسكرية الأمريكية في العالم، التي يصل تعداها إلى نحو 1000. هذا الجيش يجد نفسه كمن يسير فوق رمال متحركة في حال تلاحمه مع مليشيا عسكرية غير نظامية سريعة الحركة هدفها مقاومة الوجود الأمريكي على أرضها وليس لديها الكثير لتخسره.
أضف إلى ما تقدم، نتيجة تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي قد يكون مؤشرا على أن حلفاء أمريكا غربا وشرقا يختلفون مع موقفها الحالي المنحاز كليا إلى إسرائيل، فهؤلاء لا يجدون أن حرب إسرائيل على غزة، التي حدثت بسبب سياستها الاستيطانية والعنصرية مع الفلسطينيين، ذات أولوية قصوى. الحلفاء الغربيون يجدون أن الحرب الأوكرانية الروسية تتقدم في سلم الأولويات، وحلفاء أمريكا في الشرق الأقصى يجدون أن التصدي للنفوذ الصيني والمخاوف من مواجهة عسكرية مع الصين في المستقبل القريب أولى على مستوى الاقتصاد والأمن القومي من تلك التي تجري في الشرق الأوسط.
حلفاء أمريكا في لحظة تاريخية فارقة، المصالح تبدو متعارضة وكذلك قائمة الأولويات وهو ما يستدعي من أمريكا إن أرادت أن تبقي على مكانتها أن تراجع مواقفها من إسرائيل، وخاصة مع فقدانها لمكانتها كوسيط محايد في أي مفاوضات مستقبلية حول مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وهذا الفراغ بالتأكيد ستستفيد منه الصين وروسيا وغيرهما من الدول الإقليمية الكبرى التي تسعى لدور وتأثير بعد أن تضع الحرب أوزارها ويكون لزاما الجلوس على مائدة المفاوضات.
(3) لحظة اختبار واختيار
قبل 25 عاما، تابع العالم فضيحة أخلاقية كان بطلها حينذاك الرئيس الأمريكي الديمقراطي “بيل كلينتون” و”مونيكا لوينسكي” المتدربة الشابة في البيت الأبيض. في البداية أنكر كلينتون هذه العلاقة، وبعدها اعترف واعتذر عن نكرانه السابق. إدارة بايدن الديمقراطية تواجهه أيضا فضيحة أخلاقية أكثر سوءا وأشد هولا وأكثر فحشا من فعلة كلينتون، بمساندتها لإسرائيل فيما تقوم به من جرائم في حق أهل غزة من حصار وتجويع وقتل وتدمير، ومن قبل كانت شريكة لإسرائيل في اغتصابها لحق الشعب الفلسطيني في وطن يشعر فيه بالاستقرار والكرامة، وهي متواطئة مع دولة إسرائيل التي ليس لها حدود محددة، وهي تغمض العين عن أحلام الكيان الصهيوني في دولة إسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات، وهذا يتوقف على استخدام القوة والإرهاب للاستيلاء على أقصى ما يمكنها من أراض عربية بدعم أمريكي وصمت دولي.
أمريكا في لحظة اختبار واختيار، صحيح أنها طوال تاريخها كانت دولة براغماتية وليست دولة قيم وأخلاق، وصحيح أن تاريخها كتب على جثث سكان أمريكا الأصليين، لكنها الآن يجب أن ترتقي وتتعامل طبقا لما هي عليه: دولة عظمى عليها أن تلتزم بقيم حقوق الإنسان والمساواة والعدالة. والسؤال متى تعتذر إدارة بايدن للفلسطينيين والعرب والعالم؟ كما فعل كلينتون من قبل مع الشعب الأمريكي.