علاقاتنا الاجتماعية بين السياسة والاقتصاد

لو افترضنا أن العامل في مصر عام 2013 كان يحصل على راتب شهري قدره 3000 جنيه، وهو ما يعدل في ذلك الوقت 500 دولار، فإنه الآن في عام 2023، أي بعد مرور عشرة أعوام، أصبح راتبه 5000 جنيه، وهو ما يعدل 100 دولار بالسعر المتداول في الأسواق، ولو أنه أصبح يحصل على 7500 جنيه، وهو أمر نادر، فراتبه يعادل 150 دولارًا، وهكذا القياس بالنسبة والتناسب مع كل الرواتب، وما يقابلها من الدولار، باعتباره وحدة التسعير الحقيقية للسلع في مصر، ذلك أن كل ارتفاع لقيمة الدولار في مقابل الجنيه، يقابله ارتفاع لكل أسعار السلع دون استثناء!
كان المواطن يحصل على كيلو السكر بأربعة جنيهات، وهو الآن 50 جنيهًا، وعلى كيلو الأرز بأربعة جنيهات، وهو الآن 35 جنيهًا، وعلى كيلو اللحوم بـ60 جنيهًا، وهو الآن بـ300 جنيه، وعلى كيلو البصل بجنيهين، وهو الآن 40 جنيهًا، وعلى كيلو الجبن الرومي بـ6 جنيهًا، وهو الآن بـ250 جنيهًا، أي أن أسعار السلع تضاعفت بما بين عشرة أو عشرين ضعفًا أو أكثر تبعًا لنوع السلعة، ومدى توافرها، ومدى علاقتها بالاستيراد، وما يستتبعه من رسوم جمركية، وأيضا بمدى علاقتها بالتصدير، ومدى توافرها، في ضوء ما ينتج عن سحبها من الأسواق المحلية بهدف الحصول على العملات الأجنبية.
التراجع الكبير
هذه الأوضاع المرتبطة بذلك الغلاء الفاحش، ألقت بظلال كئيبة على العلاقات الاجتماعية بشكل عام، وعلى صلة الرحم بشكل خاص، في صور وأشكال عديدة، أهمها ذلك التراجع الكبير في حالات التزاور بين الأسر المصرية، وهي من العادات التقليدية المتعارف عليها، سواء بين الأهل أو المعارف والأصدقاء، أو حتى بين الجيران، نظرًا للتكلفة التي تتطلبها مثل هذه الزيارات من الجانبين، مثل تكلفة الهدية التي يجب أن يحملها الزائر، وتكلفة النفقات التي سيتحملها المستضيف.
لم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل أصبح من الصعب على العامل أو الموظف قضاء بعض الوقت في المقهى كما جرت العادة التي كانت بمثابة سلوك يومي، يمثل الترفيه الوحيد لغالبية المصريين، بعد يوم شاق من العمل، حيث يكون لقاء الأصدقاء من جهة، ومن جهة أخرى ممارسة إحدى اللعب الشعبية المتعارف عليها أيضا، في إطار ما يشبه المسابقات الساخنة، كالطاولة، والدومينو، والشطرنج، والكوتشينة، وهو في نهاية الأمر بمثابة روتين منتظم يحتاج إلى تكلفة مالية في كل الأحوال. ولم يعد ذلك في استطاعة الكثير من فئات الشعب، اللهم إلا الموظف المعتاد الحصول على دخل يومي، بمنأى عن الراتب الشهري، فيما يشبه الإكراميات والرشاوى وونحو ذلك.
من هنا كان أثر الغلاء واضحًا على علاقات الأسرة وعلاقات الفرد في آن واحد، وليس فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية فقط، وإنما أيضا فيما يتعلق بحركة الشارع، سلوكيات الناس، أخلاقيات المجتمع كله، مع اندثار ما كان يعرف بالتسامح، والود، والتراضي، وبالمعروف، فلا عجب إذن أن تجد صفحات الحوادث بالصحف تعج بقضايا غريبة ودخيلة على المجتمع المصري، مثل المشاجرة بسبب الخلاف على بضعة قروش، أو القتل بدافع سرقة مجموعة من الجنيهات، أو معارك مسلحة بين الورثة بسبب عدة قراريط، أو ظاهرة الطلاق لعدم القدرة على الإنفاق، أو حتى الخُلع للسبب نفسه، وغير ذلك من ممارسات وسلوكيات تؤكد مدى علاقة الحالة الاقتصادية المتردية بتراجع الأخلاق بوجه عام.
وإذا أضفنا إلى الوضع الاقتصادي، المسار السياسي، ممثلًا في حالة القهر والغبن التي يعيشها المواطن، مع ما يتواتر من أنباء عن اعتقالات هنا ومحاكمات هناك، لمجرد التعبير عن الرأي بإحدى وسائل التواصل الاجتماعي، أو في أعقاب التقاط محادثة هاتفية تناول فيها أحد المتحدثين الشأن العام بطريقة ما، أو نتيجة وشاية من أحد الأشخاص وما أكثرهم، فسوف نجد أنفسنا أمام أوضاع نفسية تصل إلى حد المرض، خصوصًا عندما يتطلب الأمر داخل الأسرة إغلاق وإبعاد الهواتف الخلوية إذا تطرقت حواراتهم إلى الشأن العام، وربما الخاص أيضا.
إضافة الخوف والقهر إلى الغلاء والضنك، تجعل من الحياة أمرًا مستحيلًا، يعجز أطباء النفس والاجتماع عن مجرد مناقشته بصوت عالٍ للأسباب نفسها التي نتحدث عنها، وهي إيثار السلامة وعدم الصدام مع السلطة، على الرغم من أن خطباء المنابر بدور العبادة، من خلال تعليمات وزارتهم، قد وجدوا مَخرجًا لهذه الحالة، من خلال دعوة الناس طوال الوقت إلى الصبر والتحمل، (وأن هذه إرادة الله، الذي لا راد لقضائه)، بل إنهم في أحيان كثيرة يُحمّلون المواطنين مسؤولية الغلاء والبلاء (ما دمتم تعصون الله)، في إشارة إلى أن المسؤولية لا تقع على الحاكم، ولا هي بسبب سوء التخطيط.
آلة تدور
أعتقد أن أكبر أزمة يمكن أن يواجهها أي مجتمع، هي أن يتحول المواطن إلى آلة تدور حول نفسها على مدار الساعة، دون أي مشاعر أو أحاسيس، أو اهتمام بالدائرة المحيطة به، صغيرة كانت أو كبيرة، كل قضيته أن يجد في نهاية اليوم ما يسد به رمقه ورمق أسرته.
على أية حال، أعتقد أنه قد آن الأوان للعلاج وترميم ما تبقى من الشخصية المصرية، وعلاقات الأسرة والعائلة، وعلاقات الزمالة والصداقة، ليس ذلك فقط، بل وعلاقات الشارع والعلاقات العامة، وذلك بأن يسعى كل منا إلى القيام بدوره في هذا الشأن دون الاعتماد على السلطة التنفيذية، المستفيد الأول من هذه الحالة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيها السادة، فريضة إسلامية، على كل شخص، لا تختص بها فئة أو جماعة، التكافل الاجتماعي وإخراج زكاة المال ومساعدة المحتاجين أمر حتمي يجب أن يكون حديث الناس حتى يصبح سلوكًا طبيعيًّا في حياتنا اليومية، السعي إلى الخروج من حالة الخوف ومواجهة الظلم أمر إلهي واضح، وما دونه تقصير وقصور، وفي كل الأحوال (كيفما تكونوا يولّ عليكم) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.