هل فقدت أمريكا قدرتها على استشراف المستقبل؟!

كانت مراكز البحوث التي تعمل لاكتشاف ما يمكن أن يتعرض له العالم من أحداث من أهم مصادر قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وقامت هذه المراكز بدور مهم في صنع القرار الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كما تقوم أجهزة المخابرات بتوفير الكثير من المعلومات لهذه المراكز؛ حيث يقوم الباحثون بتحليلها ورسم السيناريوهات، والخطط والاستراتيجيات، وإدارة الصراع.
مع ذلك شهد العالم الكثير من الأحداث المفاجئة التي سيكون لها تأثير كبير في العالم، ومن الواضح أن أمريكا لم تكن قد خططت لمواجهتها. لماذا؟!
غرور القوة وعمى البصيرة
التركيز على الواقع من أهم العوامل التي تقلل قدرة العلماء على استشراف المستقبل، لذلك ظلت عقولهم أسيرة لحسابات القوة المادية التي تفوقت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك فكروا في الصين باعتبارها المنافس الرئيس لأمريكا عسكريا واقتصاديا، ويمكن أن تتحدى السيطرة الأمريكية على العالم.
لكن غرور القوة أعمى بصيرة أمريكا، ومراكزها البحثية المتقدمة عن رؤية الكثير من العومل التي يمكن أن تؤثر في الصراعات العالمية، وتفتح جبهات جديدة، وتفرض على كل دول العالم أن تعيد بناء تحالفاتها.
من أهم تلك العوامل أن الكثير من الشعوب يمكن أن تنفجر وتثور على الوضع الراهن، وتدافع عن حقها في الحرية والحياة والاستقلال الشامل، وترفض السيطرة الغربية، وتتحدى القوة الغاشمة.
تجربة الربيع العربي
وقد شكلت ثورات الربيع العربي أملا للشعوب في تغيير سلمي للواقع المر، ولذلك اتجهت هذه الشعوب لبناء تجارب ديمقراطية، عبرت عن إرادة هذه الشعوب في اختيار حكامها وبناء مجالسها النيابية وصياغة دساتيرها، واختارت هذه الشعوب التيار الإسلامي الذي يكافح لتحقيق الاستقلال الشامل، والتنمية القائمة على الاكتفاء الذاتي، واستثمار الثروات الطبيعية لبناء اقتصاد قوي، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وشكل ذلك تحديا للقوة الأمريكية الغاشمة، فقامت بالتآمر مع النظم التابعة لها في المنطقة لإسقاط التجارب الديمقراطية الثورية، وفرض نظم استبدادية تابعة لها.
وكانت حماية أمن إسرائيل وفرض سيطرتها على المنطقة وحمايتها من التيار الإسلامي من أهم العوامل التي دفعت أمريكا إلى التآمر وتصنيع الانقلابات، ودفعها إلى استخدام القوة الغاشمة ضد الشعوب، فتدفقت الدماء في الشوارع، وامتلأت السجون بالأحرار الحالمين بالعدل والحرية والاستقلال.
طوفان الأقصى بداية لتغيير الواقع
أعمى غرور القوة بصر الأمريكيين وبصيرتهم، وقلل من قدرتهم على رؤية حقائق من أهمها أن الشعوب يمكن أن تثور لتغير هذا الواقع وتفرض إرادتها وتقاوم الاحتلال والاستعمار والاستبداد.
من المؤكد أن أمريكا كانت تعرف معلومات عن حدث خطير في المنطقة، وأن أجهزة مخابرات عربية نقلت إلى إسرائيل هذه المعلومات، لكنها تجاهلتها بسبب استكبارها وغرورها، فلم تتصور أن حماس يمكن أن تقوم بهذه العملية التي ستؤدي إلى تغيير عالمي شامل.
أهم نتائج تلك العملية أن خيال الشعوب يمكن أن يتحرر من قيود حسابات القوة؛ حيث برهنت حماس على أن شجاعة الرجال وقوة إيمانهم بالله وبحقهم يمكن أن تشكلا تحديا خطيرا للقوة الصلبة، فإسرائيل ألقت عشرات الآلاف من أطنان المتفجرات على غزة، فدمرت العمران، وارتكبت جريمة ضد الإنسانية بقتل الأطفال والنساء، وذلك كل ما تستطيع القوة الغاشمة أن تفعله، لكن ظل رجال المقاومة في الميدان يتحدون جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي تصوره وسائل الإعلام الغربية بأنه لا يقهر.
المستقبل لقوة الإيمان
الآن يشاهد العالم كله كيف يقهر أبطال المقاومة بإيمانهم القوة الإسرائيلية الصلبة، ويخرجون من بين منازل غزة المدمرة ليواجهوا بشجاعة وإيمان قوات العدو المدججة بالسلاح، ويدمرون الدبابات التي يتفاخر بها جيش الاحتلال من مسافة صفر.
وهذا المشهد يثير خيال الشعوب التي كرهت حياتها بسبب ما تعرضت له من قهر وذل وخوف؛ لذلك ستشهد السنوات القادمة توسيع نطاق الصراع على امتداد جغرافيا الوطن العربي، وعبر زمن طويل.
ويجب أن تدرك أمريكا أن هذا الصراع الذي بدأ من غزة لا يمكن حسمه باستخدام أسلحة الدمار والإبادة، فمن بين ركام المدن المدمرة سيخرج الأبطال ويبنون المستقبل للشعوب، ويحررون الأوطان والإنسان.
مليون سنوار جديد
أما النتن ياهو فإنه قد أصبح يريد صورة نصر يقدمه لشعبه الذي يدرك عدم قدرته على أن يتحمل استمرار هذا الصراع لمدة طويلة، فأصبح ما يريده هو قتل يحيى السنوار.. لكنه نسي أن السنوار قضى في السجون الإسرائيلية 22 عاما، وأنه أطلق في السجن خياله ليبني رؤيته لتحرير فلسطين، وتغيير الواقع، وأن إيمانه بالله أهم مصادر قوته.
لذلك يمكن أن تطرح مراكز البحوث الأمريكية على نفسها هذا السؤال: كم سنوار في السجون الإسرائيلية والعربية، يمكن أن يخرجوا قريبا برؤى جديدة ليقودوا شعوبهم للحرية والاستقلال الشامل.
وربما يخرج من تلك السجون رجال أكثر بأسا وقوة وخيالا، فالعقول العربية في السجون يمكن أن تقود ثورات جديدة بأفكار مبتكرة لم تتوقعها أجهزة المخابرات ومراكز البحوث الأمريكية المغرورة بقوتها.
غضب الشعوب ينفجر
وأمريكا لم تعد قادرة على قراءة الواقع الذي تشتعل فيه نيران الغضب في صدور ملايين المسلمين في أنحاء العالم خاصة في الدول العربية التي يتم فيها تزوير الانتخابات، ومنع إجراء استطلاعات الرأي العام.
لذلك ستواجه أمريكا ثورات قادمة يقودها رجال بأفكار جديدة غير متوقعة، ولن تستطيع القوة الغاشمة مواجهة شعوب قررت أن تنتزع حريتها وحقوقها، وتحقق استقلالها الشامل.