الصينيون وصلوا أفغانستان.. في أغرب علاقة مع طالبان!

أصبحت الصين أول دولة تعيّن سفيرًا لها في دولة أفغانستان.
في ظاهرة غريبة، قبلت الصين أن تكون الدولة الوحيدة التي لديها تمثيل دبلوماسي كامل مع دولة أفغانستان الإسلامية، دون أن تعترف بها عضوًا في الأمم المتحدة أو تقر بأن حكومة طالبان هي الحاكم الشرعي للبلاد.
اعتمدت بيجين (أسد الله بلال كريمي) سفيرًا ليمثل أفغانستان الأسبوع الماضي، بعد شهرين من استقبال القصر الرئاسي في كابل (تشاو شينغ) سفيرًا جديدًا للصين.
مع دخول طالبان العاصمة وإدارة شؤون البلاد، في أغسطس/آب 2021، سابقت الصين الدول الغربية والعربية والإسلامية بسحب سفيرها من كابل، بعد الهروب المفاجئ والمخزي للقوات الأمريكية من أفغانستان. توقع المنسحبون انهيار دولة طالبان بضغط من الولايات المتحدة المهزومة، والدول التي لم تعترف بها بعد. مارست الصين قدرًا هائلًا من البراغماتية، للتواصل مع جارتها الملاصقة لها بمنطقة حدودية بطول 76 كيلومترًا.
لدى نظام الحكم الشيوعي “رهاب” مما هو إسلامي، وكل دين أو جماعة لديها أفكار مخالفة لتوجهات الحزب والأيديولوجية الماركسية اللينينية التي يفرضها منذ توليه السلطة 1949.
ملء الفراغ
عيون الصين بكل مكان في أفغانستان، من قبل الهروب المذل للأمريكان، زادت اتساعًا بعد أن أصبحت الدولة التي تتشابك مع خاصرتها، ساحة فارغة من الأصدقاء والخصوم.
تعتمد الصين استراتيجية ملء الفراغ في الجغرافيا أسوة بما تفعله بالأسواق، لتحل محل المنافسين وتعرقل وصول أي طرف آخر يهدد مجالها الحيوي، ومسار مشروعاتها الاقتصادية في “الحزام والطريق” وتجمُّع “بريكس” وتحالف مجموعة “شنغهاي”.
على خلاف أعضاء الأمم المتحدة، احتفظت بيجين بقنوات اتصال مفتوحة مع طالبان منذ اليوم الأول لوجودها في السلطة، رغم مخاوفها الشديدة من نجاح نظام ثوري إسلامي في السيطرة على الحكم.
حرصت الصين على إظهار احترامها لاختيارات الشعب الأفغاني، بوعدها بعدم التدخل في شؤونه الداخلية. دفعت شركاتها إلى التوسع في المشروعات تدريجيًّا، ولم تتراجع عن ذلك بعد أن فجّرت جماعة محسوبة على تنظيم “داعش” عام 2022 أحد الفنادق التي يرتادها صينيون، وقتلت عددًا من الأشخاص بهدف “الانتقام مما تمارسه بيجين من مجازر ضد المسلمين داخل أراضيها”.
تبادل البلدان وفودًا تجارية وثقافية ورياضية على مستوى الوزراء والقادة، على مدار عامين، وظلت الصين مركزة على توظيف فشل واشنطن، والخراب الذي سبَّبه الاحتلال العسكري الأمريكي على مدار عشرين عامًا، ليصب في صالحها. تولت إعادة إعمار “الإرث الكارثي” الذي خلّفه الغزو الغربي، ومن قبله الاتحاد السوفيتي، ودمج أفغانستان في مبادرة “الحزام والطريق”.
لم ينس الصينيون غضبهم من طالبان التي دمرت معبد “بوذا” الكبير في جبال تورا بورا منذ ربع قرن، مع ذلك قدّموا المساعدات المالية والطبية، لإنقاذ مليوني متضرر من زلزال قوي ضرب شمال غربي أفغانستان في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أودي بحياة ألفي شخص ودمر آلاف المنازل.
لعبة الغاز والمعادن النفيسة
تراقب بيجين تحولات طالبان عن كثب، لتجنب انتشار الحركات الإسلامية على حدودها، المتصلة مباشرة بمنطقة تركستان الشرقية “شينجيانغ” التي يعيش فيها 20 مليون مسلم من الإيغور والقازاق، تحت القمع الوحشي للحزب الشيوعي. في الوقت نفسه، تظل عيونها متتبعة لثروات أفغانستان الهائلة التي اكتشفها المستعمرون البريطانيون والسوفيت والأمريكيون، ولم توظف بعد بسبب حالة الحرب المستمرة في البلاد على مدار قرن كامل، اشتدت وتيرتها خلال العقدين الماضيين.
وقعت عملاق النفط الصينية “سينوبيك” في يناير/كانون الثاني 2023 أول اتفاقية تجارية منذ وصول حكومة طالبان إلى الحكم، لاستغلال النفط والغاز بشمالي أفغانستان، عبر شركة تابعة “آسيا الوسطى للبترول والغاز” ستمول المشروع بنحو 550 مليون دولار، على مدار 3 سنوات. وعدت الشركة بتشغيل 3000 أفغاني. دفعت بيجين بشركات حكومية أخرى لبناء الطرق والمنشآت الصناعية، في دولة تحتاج إلى إعادة بناء مرافقها ومنشآتها المدمرة بالكامل.
لا تنظر الصين الأكثر استيرادًا واستهلاكًا للنفط عالميًّا إلى وارادت أفغانستان الضعيفة من البترول، فعيونها على حوض غاز “أموداريا” في الشمال.
أكدت دراسات جيولوجية أمريكية وصينية أنه سيكون أهم حوض لتجمعات الغاز في العالم، بعد حقول سيبيريا والخليج العربي. منحها الاتفاق فرصة لمناطحة الغرب بقيادة مستقبلية لصناعة الغاز والتحكم في شبكاته الواسعة، وتأمين استيرادها كميات هائلة من روسيا الخاضعة للعقوبات الغربية، ومد شبكة غاز تربط بين شنغهاي شرقًا وسيبيريا غربًا مرورًا بدول آسيا الوسطى، خاصة التي تمولها في تركمانستان الواقعة على مشارف حوض الغاز الأفغاني.
يأمل الصينيون الحصول على حق استغلال مناجم النحاس وسط البلاد، التي تحتوي على ثلث احتياجات الصين من النحاس سنويًّا، واستخراج المعادن النفيسة المنتشرة عبر أوديتها، لتكتمل دائرة سيطرتها على أكبر مناجم النحاس و90% من المعادن النادرة عالميًّا.
الدمج في تحالف سياسي
اعتراف الصين المنقوص رسميًّا بدولة أفغانستان المتعطشة للاستثمار ومشروعات تُشغل أبناءها، لا يتوقف عند الجانب الاقتصادي، بل سعيًا لدمجها ضمن تحالف سياسي كبير، يضم كلًّا من باكستان وإيران وتركمانستان وطاجيكستان وقرغيزستان وكازاخستان. تحاول جذب أوزبكستان بعيدًا عن أمريكا، وضمها إلى تجمُّع “شنغهاي” لمواجهة التمدد الهندي على حدودها الذي ينافسها على الغاز وثروات المنطقة، مع التصدي للغرب المتحدي لصعودها كقوة كبرى، والمناهض لتقاربها السياسي والاقتصادي مع روسيا.
تسعى الصين إلى دفع طالبان -التي تعهدت بملاحقة أي جماعات مسلحة تهاجمها من داخل أراضيها- لمنح شركاتها التصرف في ثرواتها الهائلة، مقابل أموال ومشروعات بنية تحتية، تحافظ على بقاء النظام المحاصر، لتنفرد بخيراته، مستفيدة من تجاهل الدول الإسلامية لما ترتكبه من جرائم بحق المسلمين.
تعُد الصين -الرئيس الحالي لمجلس الأمن الدولي- الاتفاق مربحًا لطرفين، أحدهما مناهض للإسلام والآخر منبوذ دوليًّا، لتظل الكلمة الأخيرة لتجمعات المسلمين الذين يرفضون ممارسات نظام ملحد رسميًّا، يمارس “قمعًا ممنهجًا ومتزايدًا على الدين والهوية بحق مسلمي أقاليم شينجيانغ وتشنغهاي وقانسو ونيغشيا”. أدانت منظمة هيومن رايتس ووتش -في تقرير أصدرته أثناء قبول بيجين سفير طالبان- إغلاق 1300 مسجد لمسلمي “الهوي” ذوي الأصول الصينية، وتدمير القباب والمآذن والمنابر، وإعادة استخدام المساجد منشآت تجارية، للحد من ممارسة شعائر الإسلام، وإخضاع المسلمين لقمع طويل الأمد، لإضفاء “طابع صيني على التدين” يتناسب مع النظام الشيوعي وتعظيم الحزب وقياداته.