صلاة المرأة جالسة لوجود الرجال الأجانب

صلاة العيد في باحة المسجد الأزرق بإسطنبول (غيتي)

بعد تناولي في مقال سابق حكم صلاة القاعد على الكرسي، وذلك لعدم تمكنه من الركوع أو السجود، ولكنه يصلي جالسًا، وبيّنت حكم ذلك على المذاهب الأربعة، بسبب ما تفشى بين الناس من هذا الفعل بحكم المرض أو السن، وانتشار كلام للبعض يفتي ببطلان صلاة من يفعل ذلك، وبيّنت فيه المذاهب التي تُبطل هذه الصلاة، والمذاهب التي تفتي بصحتها.

تصلي جالسة حرجًا من الرجال:

بعد المقال جاءتني أسئلة متعلقة بالموضوع، لكن هذه المرة بشأن صلاة المرأة جالسة للعذر السابق نفسه، عدم القدرة على القيام للركوع أو السجود، فقلت لمن يسأل: إجابة الرجل نفسها، لا فرق بين عذر الرجل والمرأة في هذه المسألة. لكن صيغة جديدة من السؤال أتت، ونرى بعض حالاتها في الحياة العامة، وهي: هناك شريحة غير قليلة من النساء يؤدين الصلاة قاعدات، ليس لعذر مطلقًا، بل هي صحيحة البدن، معافاة من الأسقام، لكنها تصلي جالسة، لأنها في مكان عام، ولا تجد مكانًا يسترها للصلاة فيه، ولمخافتها أن تصلي فتركع وتسجد، فيراها الرجال الأجانب، فتضطر للصلاة قاعدة حتى لا تؤدي فعلًا فيه ما يثير الرجال، أو يضعها في حرج بينهم، فما الحكم؟

بطلان صلاة من صلت جالسة دون عذر:

أما عن الحكم الشرعي في هذا الأمر، فإن القيام في الصلاة للقادر عليه فرض في صلاة الفريضة، لقوله صلى الله عليه وسلم: “صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب”، فمن قعد وهو قادر على القيام، بدون عذر شرعي، فإن الصلاة تبطل، أما النافلة فالقيام ليس فرضًا فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل على الراحلة وهو قاعد، وله نصف الأجر.

وذلك لمن كان عالمًا بالحكم الشرعي فيما قام به، فلو كانت المرأة جاهلة بهذا الحكم، فمعفو عنها بجهلها، وتصلي قائمة بعد ذلك، ولا تصلي قاعدة إلا لعذر شرعي، ووجب على من يعلم بالحكم أن يعلم من تقوم بذلك جاهلة به، فالدين النصيحة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

أسباب مجتمعية وراء هذا الخطأ:

وهناك أسباب كانت وراء إتيان المرأة بهذه الصلاة، بكيفية تبطل بها، وهذا المشهد كنت أراه في الريف المصري، فالنساء اعتدن على الصلاة قاعدات، تبدأ فقط بالركعة الأولى، مكبرة تكبيرة الإحرام، ثم تقرأ الفاتحة، ثم تجلس لتكمل كل صلاتها جالسة، دون عذر أو سبب، ولما كنت أسأل كانت الإجابة: إن هذه هي صلاة المرأة، فالمرأة تصلي جالسة، وهي فكرة نابعة عن جهل بالأحكام الفقهية، ويحكمها العرف الخاطئ، ومعظم هؤلاء من الأميات، ولم يجدن من يصحح لهن، فقد عاشت المرأة الريفية معزولة لفترة عن تعلم أحكام الدين، نظرًا لمنع النساء من الذهاب إلى المساجد.

وهناك سبب آخر: أن كثيرًا من الأماكن العامة لا توجد فيها أماكن للنساء للصلاة، ولو وُجد فيها مكان للرجال ندر أن يوجد للنساء، وإن بدأت هذه الظاهرة تقل، وأصبحت هناك مساحات للنساء كذلك، لكنها ليست متساوية مع الأسف. وهي مسألة تكثر في بلدان تتمذهب بالمذهب الحنفي وغيره، من المذاهب التي لا ترى صلاة الجماعة للنساء، أو في المسجد، ولذا تجد في مساجد الأتراك والهنود والباكستانيين، وغيرهم من أتباع المذهب الحنفي، تجد مساجدهم تخلو من مكان لصلاة النساء.

ومنذ سنوات كان شيخنا القرضاوي -رحمه الله- كلما لقي مسؤولًا عن المساجد أو الأوقاف في هذه البلدان حثه على كسر هذا التعصب المذهبي، الذي بُني على سد الذريعة، وأن الأصل الشرعي في وجود النساء في المساجد، وليس كما شاع في عصور التقليد والجمود، وكانوا يعدون بذلك، وبالفعل سعت تركيا مؤخرًا إلى كسر هذه الفتوى، وبدأت المساجد الجديدة يُخصَّص فيها مكان للنساء، وكذلك في بقية المساجد.

الخوف من الفتنة:

ومن الأسباب الرائجة في هذا الأمر: أن صلاة المرأة أمام الرجال تثير الفتنة، ولذا فهي تصلي جالسة، والأولى لها هنا أن تؤجل الصلاة لمكان مخصص، أو حين تعود إلى البيت، أو تصلي صلاة صحيحة، ومسألة الفتنة أيضًا هنا لا يُسلَّم بها، فإن المسلمين يذهبون إلى الحج والعمرة ولا يوجد فصل فيها بين النساء والرجال، بل يرى كل منهم الآخر، وكانت الصلاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد واحد، بلا حواجز، ويرى من جاء متأخرًا عن الركعة من مؤخرة المسجد، فيرى النساء راكعات أو ساجدات أو في أي وضع للصلاة.

مثل هذه القضية في صلاة المرأة، سنجدها في قضايا أخرى تتعلق بفقه المرأة، حيث يحكم فيها إما الجهل بحقيقة الحكم الشرعي، أو الموقف الإسلامي الصحيح المستند على القرآن والسنة، ويعلو رأي العرف، أو عادات الناس، أو صورة نمطية للتدين، ويضيع الحكم الأصلي الصحيح، فهي مجرد نموذج نسوقه هنا بالكتابة، لأنه متكرر لكن على مستويات مختلفة، فتراه في الحياة الاجتماعية، والمشاركة العامة للمرأة، فترى أضيق الآراء وأشدها هو السائد، للعلل والأسباب نفسها التي رأيناها في قضية صلاة المرأة جالسة في الأماكن العامة، أو أمام الرجال.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان