من غسان كنفاني إلى رفعت العرعير.. في البدء كانت الحكاية
بين عامي 1972 و1979 فصلت سبع سنوات بين اغتيال غسان كنفاني وولادة رفعت العرعير. مات غسّان، ووُلد رفعت، ليستأنف مع آخرين مسيرة تدوين المعاناة وحكايتها، وصيانة روح التاريخ الفلسطيني، ويواصل نثر فصول الرواية الوطنية الطويلة التي لم تصل بعد إلى نهايتها.
في مجموعته القصصية (عالم ليس لنا)، أهدى غسَّان كنفاني كتابه إلى فايز، وإلى لميس، وإلى “كل الصغار الذين نطمح بعالم لهم”. كنت واحدة من هؤلاء الصغار، ارتبطت فترة نشأتي بأدب كنفاني باعتباره مدخلًا لفهم تاريخ غابت عني تفاصيله، ونأت عني جغرافيته، تساءلت أول مرة عن معنى الوطن في (عائد إلى حيفا)، وفهمت كيف يتكوّن الفدائي مع (أم سعد)، ووَثَقت أنني أبدًا لن أجد الشمس في غرفة مُغلقة. واليوم، رأيت المقاومين يدقّون جدران الخزان، ويحطمون معدنه الصدئ، ويدخلون على عدوّهم الباب.
كان كنفاني صحفيًّا، وحكّاءً، ورسامًا، وعلاوة على كل ذلك، كان فدائيًّا، مثالًا نموذجيًّا لما يُسمّى “المثقف المشتبك”، مثالًا قلّ نظيره في زمننا الموتور. استغلّ موهبته الأدبية في التثوير والاستفزاز، وانتهت حياته باغتيال إسرائيلي غادِر في بيروت، لكن عمره صار، بقلمه، أطول من عمر قاتله.
في رسالته المؤرخة بيوم 29 نوفمبر 1966، بعث كنفاني من غزة إلى غادة السمان: “إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض تافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروط الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه”.
انضم كنفاني في النهاية إلى قوافل هؤلاء “الرجال الحقيقيين”، وارتقت روحه في سبيل ما احترمه، رغم أنه أخطأ حين قلّل من أهمّية كلماته التي خلّدته، وهدّدت تحريف قاتله وعبثه بالحقائق، وسطّرها كما نصح نيتشه: “اكتب بدمك، فَتَعْلَم حينئذ أن الدم روح”. وغسّان لم يمتشق قلمه، ولم يمتشق بندقيته، لم يمتشق إلا دمه، كما رثاه محمود درويش.
لا بدّ أن تعيش أنت.. لتروي حكايتي
في محاضرته التي قدمها خلال فعالية “TEDx” في الشجاعية قبل ثمانية أعوام، حكى أستاذ اللغة الإنجليزية بالجامعة الإسلامية في غزة رفعت العرعير ذكريات طفولته المبكرة، وتعجب كيف تومض من حين لآخر في ذاكرته، رغم أن عمره حين عايشها لم يتعدّ عامًا أو عامين، ثم أرجع السبب في تذكّرها إلى أنه حضرها عبر حكايات أمه التي ظلّت تعيدها عليه، ويعلّق رفعت أمام الجمهور: “لقد نقلت أمي تجاربها إليّ، وحياتها أصبحت حياتي”.
منطلقًا من هذا الإلهام، استوحى رفعت أهمية القصص لشعب يقبع تحت الاحتلال جيلًا بعد جيل، يتناقل شفهيًّا سرديته الخاصة، من الجد إلى الولد، كما دأب أن يفعل السكان الأصليون قبل أن يبيدهم الاستعمار، فتتحول السردية إلى أمثولة شعبية أشبه بالأساطير الخرافية.
وعى الاحتلال، منذ الأيام الأولى للحرب، سحر الحكاية وسطوتها، فبعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، بنت إسرائيل دعايتها على أساس قصصي، ونشرت الوقائع في سياق روائي، بأسلوب المقدمات فالكارثة ثم الخاتمة، دون أن تهمل اختلاق الثنائية القطبية عن البطل الطيب وخصمه الشرير، وظلت صفحات الدعاية الإسرائيلية تحكي حياة كل قتيل على حدة، تستميل التعاطف الدولي، وتستثير الحزن، وتستزيد التضامن، وأرفقت بكل قصة صور ضحاياها مفعمين بالنشاط، ومقبلين على الحياة، وطعّمت الحبكة ببهارات عاطفية، لتوحي للمتلقي بأنهم يشبهونه، وأن الموت باغتهم على حين غرة، وأنهم لا يستحقون هذا المصير.
ولقد رأى رفعت العرعير أن شهداءنا هم الأجدر بدور البطولة، وحرص على تخليد سيرهم وذكراهم، وكرس مهنته، وموهبته، وشغفه للكتابة عنهم، وشدد على ضرورة تسمية قاتلهم لطلابه بكل وضوح: “عندما نكتب عن الشهداء، يجب أن نذكر أن الاحتلال قتلهم، يجب ألا نترك الفعل للمجهول”.
بدا كأنه يثأر بحروفه للشهداء، وينزع عن أرواحهم جمود أرقام الإحصاءات الجمعية التي لصقت بهم في البيانات الصحفية، ولاحقتهم في النشرات الإخبارية، وصوّر لنا كيف تتفرد كل حياة بذاتها وخصوصيّتها، ومن بين آلاف الحكايات، فلا حكاية تشبه الأخرى. كان مؤمنًا، على كل وجه، بدور القلم في المقاومة، فقد صرح خلال مقابلة تليفزيونية قبل استشهاده بأيام بأنه لا يملك في منزله شيئًا أصلب من قلم السبورة، مردفًا بأنه لن يتردد في رميه على جنود الاحتلال إذا اقتحموا بيته، ولو كان ذلك آخر شيء يفعله.
لقد تمسّك رفعت بالحياة إلى آخر أنفاسه، واعتنق بيتَ سميح القاسم: “أنا لا أحبّك يا موت، لكنني لا أخافك”. كرّر قبل استشهاده: “سنقاوم حتى النهاية، فليس لدينا ما نخسره”، وبدأ قصيدته الأخيرة بعبارة “إذا كان لا بد أن أموت”، كأن الموت آخر خياراته، ثم استطرد وصيّته: “لا بدّ أن تعيش أنت، لتروي حكايتي”.
صار ما تمنّاه العرعير، والتحق بكنفاني في اغتيال إسرائيلي جديد غادِر، وبات موته حكاية يرويها طلابه، وأصدقاؤه، وعشرات وسائل الإعلام والكتاب والممثلين العالميين. ومرة أخرى، أصبح الأدب شكلًا من أشكال المقاومة.
الأدب درب للخلود
يجادل كثيرون في تقدير الأدب ودوره، ويتجاهلون أن الكتابة تهدف بالأساس إلى التأريخ، والتوثيق، والحفظ، وإنارة الزوايا المظلمة في النفس أو المجتمع أو الزمن، وحماية ما لا نريد اندثاره مع فنائنا، لنخطّ آثارنا، ونصنع أهراماتنا الخاصة، ونعيش لأطول وقت ممكن، وتهزم بلاغتنا الموت، كما هزمته الفنون جميعها.
إن الأدب يُفضي بكاتبه إلى الأبد، وكل لحظة تمرّ دون أن ترصدها الحكاية هي لحظة ميتة، وستمضي نحو العدم، وإن حيوات شهدائنا لهي الأحق بالذكر، لا تكفي الصورة وحدها لكشف ما وراءها، لأنها قاصرة عن ذكر الكمال.
عندما استشهد مصور رويترز عصام عبد الله بقصف إسرائيلي في جنوب لبنان، عرفنا من أحاديث أصدقائه فيما بعد، ما يتعدى شخصية الإعلامي الواقف خلف عدسة الكاميرا، سمعنا جانبًا مختلفًا غابت عنّا سيرته، وأدركنا كم كان صديقًا مخلصًا، وإنسانًا مرحًا، وعلمنا حبّه للطعام والسفر والحفلات، ولولا هذه الشهادات ما فهمنا كيف يكون الفقد عظيمًا ومؤلمًا، وكيف تكون الخسارة بالغة ومفجعة.
اشتهر كنفاني برواياته أكثر من بقية نضالاته، وتعدّت الأجيال التي كتب من أجلها إلى ما بعدها، وتُرجمت إلى ١٧ لغة، ونُشرت في أكثر من ٢٠ بلدًا، ووضعت فلسطين على خريطة الثقافة العالمية، ولقد عُرفت الملهاة الفلسطينية من بداية ظاهر العمر الزيداني إلى الآن من صفحات إبراهيم نصر الله، وما كنّا لنألف اسم قرية الطنطورة بعدما محتها العصابات الصهيونية دون أن تروي رضوى عاشور من شاطئها مأساة النكبة وما تلاها.
لسنا أرقامًا
أمرّ على حساب (شهداء غزة) الذي ساهم رفعت العرعير في تأسيسه، وأقف عند اسم كلّ شهيد رفع يومًا شعار: “أنا لست رقمًا”، وأرى نفسي في كل واحد منهم، أرى نفسي في عُلا عطا الله، وهي تراسل الصحافة عما تعايشه حتى يومها الأخير، وأعاينها في آية شبير، وهي تشتهي وجود الشوكولاتة ضمن محتويات المساعدات، وأشاهدها في حب بيسان حلاسة للأحصنة وقراءة الكتب، وأجدها في هلا الفرا التي “كانت تهوى الورد، وخصوصًا الورد الأحمر”.
لقد استشرف الشهداء مصيرهم، ورجوا، كما رجى رفعت، أن يستحيلوا حكايات، يؤدون فيها أدوار البطولة، والنُّبل، والشرف، يسرع كل واحد منهم إلى تخليد مناقب أصحابه الراحلين، ليعظّم شهداءه قبل أن يلتحق بركبهم، فيدوّن الشهيد عن الشهيد، ثم لا ينسى الحكاية عن نفسه، وماضيه، وإنجازاته، وخوفه، وذعره، مستدركًا بذكر آماله، وتطلعاته التي بنى عليها كل شيء.
صارت حسابات المدونين في غزة دفاتر عزاء ونعي ووصايا، ورَثَوا، وهم مهددون بالموت في أي لحظة، أحلامًا وأمنيات أخيرة جهروا بها تحت القصف، من بينهم الشهيدة يافا أبو بركة التي قالت في كلماتها الأخيرة قبل قتلها في خان يونس: “اسمي يافا، لديّ من العمر ٢٤ عامًا لأصبح كما أنا عليه الآن، لديّ أصدقاء، وذاكرة، والكثير من الألم”.
إننا إذ نريد أن نستدلّ على أثر القصص في وقف سفك الدماء، وترميم الدمار، فلن نخطو بعيدًا عن تراثنا العربي، ويمكننا أن نحط رحالنا في أراضي شهريار، ونرى كيف نجحت شهرزاد بمِلكتها الروائية العجيبة في تأجيل موتها وموت بقية النساء في المملكة لأكثر من ألف ليلة، وتصدّت لشرور المَلِك حتى ثاب إلى رشده، وتاب عن بطشه، مهتديًا بسحر الحكايات.
إن الأدب يذكرنا بأننا على قيد الحياة، وأدب الشهداء يذكرنا بأنهم كانوا مثلنا يومًا، يشبهوننا في تكويننا وطبائعنا ورغائبنا، ولا عزاء لنا فيهم سوى وعد الله بأنهم أحياء عنده، وهكذا يبقون بالحكاية أحياء في الدنيا، وبالشهادة أحياء في الدار الآخرة.