التهجير الناعم جدا..!

ربما يندهش صديقاي أن حوارًا خاصًّا دار بيني وبينهما، يستحق أن ننقل ملامحه إلى الفضاء العام بصرف النظر عن اسميهما أو ما يشير إليهما، فقد ساقتهما الأقدار إلى أن يصبحا دون إرادتهما الكاملة مثالًا واضحًا لتنفيذ مخطط تهجير خاص للفلسطينيين لا يدور عنه أي نقاش في وسائل الإعلام، كما أنه يجري بطريقة ناعمة لا تلفت النظر إليه أبدًا، وربما وجد من يمتدحه باعتباره مثالًا للإنسانية، ولتحمُّل المسؤولية وللمشاركة في تخفيف آثار العدوان الإسرائيلي الهمجي على السكان المدنيين في غزة.
لسنوات طويلة كنت أتفق مع صديقيَّ بقدر كبير على ما نراه سبلًا متوازية ينبغي أن تسلكها مسارات حل القضية الفلسطينية التي تتسم بالتشابك والتعقيد معًا، وتحتاج إلى تفكيك حذر للمعضلات التي تراكمت عبر عقود منذ نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948.
ودائمًا ما كان بيننا توافق على حتمية المقاومة بكل وسيلة ممكنة، من السلاح إلى السياسة، ومن الخنادق إلى الفنادق وما بينهما من فضاءات ونعُد أنفسنا كحمَلة للأقلام ركنًا أساسيًّا في تيار المقاومة، كما نعتقد أن بقاء الإنسان الفلسطيني على أرضه ضمانة أساسية لمواجهة مخططات إفراغ الأرض من سكانها.
غزة المصرية والضفة الأردنية
كان بديهيًّا أن لا نتجادل بشأن رفض تهجير أهل غزة إلى مصر التي كانت تسيطر على القطاع حتى عام 1967، وكذلك تهجير أهل الضفة الغربية إلى الأردن التي كانت تتولى إدارتها خلال الفترة ذاتها.
وبينما تبدو غزة كأحد مدن شمال سيناء الساحلية حيث يسود مزاج مصري عام، فمتابعة المسلسلات ومباريات المنتخب المصري أو ناديَي الأهلي والزمالك على مقاهي غزة ومنتدياتها تجعلك تشعر أنك في حي شعبي مصري، فإن الحال نفسه يتكرر من توحد هوى الضفة الغربية وتماهيه مع الأردن التي تُعَد امتدادًا طبيعيًّا جغرافيًّا وسكانيًّا للضفة.
وإذا كان الحال كما أسلفنا فمن الطبيعي أن تفكر “إسرائيل” في حل مريح بالنسبة لها، وهو دفع أهل غزة نحو مصر وأهل الضفة الغربية نحو الأردن. ومع رفض الفلسطينيين أنفسهم لتهجيرهم إلى أي جهة فإن “المعتدلين” في دولة الاحتلال تحدثوا بصوت عال، عن وجوب نقل الفلسطينيين إلى أي مكان في العالم إلا غزة، بينما اقترح وزير صهيوني تتضاءل أمامه فظائع هتلر عن وجوب ضرب غزة بقنبلة نووية للخلاص النهائي منها.
البحث عن ملاذ
القصف المستمر بآلات القتل الغربية آناء الليل وأطراف النهار وما ينتج عنه من دمار شامل لكل مقومات الحياة في غزة استنفر ذوي القلوب الرحيمة في العالم للمناداة بوقف فوري للقتل والتدمير في القطاع المنكوب، لكن أصواتًا غربية نلحظ صداها في الصحافة الأمريكية تحديدًا تحدثت بوضوح عن مشاركة كل دول العالم في استضافة أعداد من سكان غزة الذين يريدون الفرار بأطفالهم من جحيم الحرب.
وفي تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لم تتطرق إلى وقف إطلاق النار كحل ينقذ سكان غزة من بحور الدم، ولكنها رأت أنه ينبغي على كل الدول في جميع أنحاء العالم أن توفر ما وصفته بـ”ملاذ لسكان غزة” عبر إنشاء “برامج نقل منسقة دوليًّا، وتقديم دعم مالي لمرة واحدة للمساعدة في تكاليف النقل وتسهيل تأقلم اللاجئين مع مجتمعاتهم الجديدة”.
ويتضح لمن يدقق أن الأمر ليس مجرد بحث عن ملاذٍ أو ملجأ مؤقت حتى تتوقف الحرب، وإنما خطط وأموال وتكاليف من أجل توطين مستمر ودمج في مجتمعات جديدة.
وبلغة أكثر وضوحًا قالت الصحيفة “نحن ببساطة نحتاج إلى تقاسم مسؤولية استضافة سكان غزة، ولو استقبلت كل دولة ما لا يقل عن 10 آلاف شخص، فإن ذلك سيساعد في تخفيف الأزمة”.
وإذا علمنا أن عدد دول العالم 193 وأن كل دولة مدعوة لاستضافة 10 آلاف فلسطيني من أهل غزة، فإننا نتحدث عن رقم يقترب من مليوني شخص هم تقريبا 90% من سكان غزة.
ولم تنس الصحيفة أن تصدّع رؤوسنا بخطبة مفتعلة عن الواجب الأخلاقي للمجتمع الدولي، وأن لديه فرصة لإظهار التعاطف، ومساعدة شعب غزة على التحرك نحو مستقبل أكثر ازدهارًا لتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، دون أن تشير إلى أن الفلسطينيين يُقتلون بالأسلحة الأمريكية، وأن تهجيرهم بهذه الطريقة أو غيرها يصب في صالح الاحتلال الإسرائيلي فقط.
الشيشان تشارك
هذا التوجه لا يتعلق فقط بالولايات المتحدة، بل إن دولًا ذات أغلبية مسلمة تشارك بدوافع إنسانية ظاهرة لكنها تصب -ربما دون وعي- في إطار حملة “التهجير الناعم”. فقبل أسبوع كشف وزير العلاقات الخارجية والإعلام الشيشاني أحمد دوداييف أن بلاده استقبلت عشرات من اللاجئين الفلسطينيين، وأن هذه هي الدفعة الأولى، وأنهم سيوفرون لمن يرغب عملًا وسيُلحقون الأطفال بالمدارس، وهو ما يشير إلى استعداد الشيشان لتوطين من يصل إليها من الفلسطينيين الفارين من جحيم الحرب في غزة.
وفي مقابلة مع قناة RT الروسية، تحدّث الوزير الشيشاني بالتفصيل عن استعداد بلاده لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين المهجَّرين من غزة، واستعرض الإجراءات المتبعة معهم، معلنا أن بلاده في انتظار استقبال دفعات أخرى.
الهجرة والتهجير
ومن اللازم وقد توافقت إرادات شرقية وأخرى غربية على تنفيذ عمليات التهجير أيًّا كان تصنيفها ودوافعها أن نحدد المصطلحات ونقف على أبواب المعاني قبل أن نوغل في اتهامات بلا دليل.
يجدر البدء بأن التهجير ليس فعلًا إراديًّا يقوم به الإنسان برغبته بل هو إرغامٌ على ترك الموطن وإجبارٌ على مفارقة الأرض وإذعانٌ لإرادة أقوى -بشرية أو طبيعية- ترفع سيف الوعيد وتُشهر سلاح التهديد، وتجعل من التهجير حلًّا وحيدًا لإنقاذ الحياة أو ما تبقى منها.
التهجير يشبه فرارًا من المجذوم ومن الأسد معًا، وهو ليس انتقالًا حرًّا من أرض إلى أرض باختيار واعٍ بل هو استجارة من الرمضاء بالنار، وبحث عند الاختناق عن أي حيز من الهواء وسط السديم والدخان.
إن مصطلح التهجير القسري المستخدَم في الإعلام العربي والعالمي يبدو غير دقيق وقد يكون مضللًا أيضًا، فليس هناك تهجير قسري وتهجير طوعي، بل هناك نوعان من الانتقال ومغادرة الموطن، أولهما: الهجرة التي تعني الذهاب بمحض الإرادة إلى مكان آخر بحثًا عن حياة جديدة أو ظروف معيشية أفضل، أو تنقيبًا عن فرصة للتعليم أو الربح أو النجاح أو لكل ما سبق.
وثانيهما: التهجير وهو فعل استثنائي متعجل يتم بسرعة لسبب قاهر أو طارئ أو كارثة طبيعية، وقد يكون بسبب تهديد الحياة نفسها، وهنا يصبح فعلًا لازمًا صونًا للأنفس حتى وإن كان على حساب ترك الثمرات.
ويشير التعريف القانوني الذي تعتمده منظمة الأمم المتحدة إلى أن الإجلاء القسري هو “الإبعاد الدائم أو المؤقت للأشخاص أو أسرهم أو المجتمعات المحلية، من المنازل أو الأراضي التي يشغلونها، ضد إرادتهم وبدون توفير أشكال مناسبة من الحماية القانونية أو غيرها من أشكال الحماية الأخرى، ومن دون إمكانية الوصول إلى الحماية”.
إجلاء من غزة
وقد يبدو صادمًا أن معظم المؤسسات الغربية العاملة في قطاع غزة قد أوقفت نشاطها، وفيما يبدو أنه قرار بترك القطاع لمدة طويلة، أنهت هذه المؤسسات أعمالها ثم قامت عبر سفاراتها في القاهرة بعمليات إجلاء منظمة لطواقمها المحلية دون أن يطلبوا، حيث تم تسفيرهم إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وقامت بترتيب أوضاعهم كلاجئين دائمين، وأنهت علاقات العمل دون أن يحصلوا على وظائف بديلة.
لا يستطيع إنسان عاقل أن يلوم أو يتهم فلسطينيًّا يسكن غزة ثم جاءته فرصة للفرار من ساحة افتراس للبشر لا ناقة له فيها ولا جمل، فآوي إلى الفرصة يقتنصها لحماية صغاره، ولا لوم على من واتته فرصة لحياة آمنة في بلاد غريبة فتشبث بها بعد أن فقد وظيفته ومنزله ووجد نفسه مشردًا ولاجئًا في غزة يجر أطفاله وزوجته، بحثًا عن مخبأ من القصف أو معونة من الخبز والماء.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فبعد نحو شهرين من القصف المتواصل وإبان الهدنة خرج صديقاي من جحيم غزة، وبعد رحلة لاهثة وجد أحدهما نفسه في مجمع للاجئين في غرب ألمانيا، بينما استقر الثاني في مجمع مماثل في شرق الولايات المتحدة الأمريكية، ولأنهما قد أفلتا من أن يصبحا مجرد رقمين في إحصاءات الشهداء والمصابين فقد كنت سعيدًا لا ريب، لكن حوارًا معهما بعد أن هدأ غبار السفر كشف أنهما يعيشان قلقًا وصراعًا فوق الوصف، فكلاهما وصل فجأة مع أولاده بدون أغراض أو أمتعة وبقليل من الملابس، وبكثير من الاضطراب ودون تمهيد، إلى مجتمع غريب ومختلف كانوا يرون صوره ولا يتخيلون طرق الحياة فيه خاصة لأطفال ومراهقين لم يغادروا حدود غزة من قبل فوجدوا أنفسهم فجأة في بلاد غير البلاد وسط عباد غير العباد.
العودة بعيدة
يرى صديقاي أن وجودهما في الغرب مؤقت وسينتهي بوقف الحرب، لكن الأمور لا تشي بهذا، فكلاهما لن يجد منزلًا أو وظيفة إذا عاد إلى غزة، ولن يكون له مورد رزق ثابت، أو حتى غير ثابت مع تدمير كل شيء، وبينما كانا من العاملين في مؤسسات أجنبية يحصلون فيها على رواتب مناسبة بالدولار الأمريكي فإنهما سيكونان عاطلين في أحسن الأحوال ينتظران معونة باردة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
لم يكن أي من الصديقين يعرف أن الآخر استطاع النجاة من محرقة غزة، وتكفلتُ بتوصيل أخبارهما، وكان أحدهما خجلًا يلوم نفسه لأنه خلَّف أهله وراءه لمصير مجهول، وبينما ترك كل منهما والديه وأشقاءه، وتقطعت بمعظمهم السبل مع انقطاع الكهرباء والإنترنت، فإن الحقيقة أن طاقة أي فرد في غزة لن تضاهي إرادة الدول، وإذا لم تتحرك الدول العربية -حكوماتٍ وشعوبًا ومعهم أصحاب الضمائر في هذا العالم- لوقف حرب الإبادة لسكان غزة، فإن التهجير بمختلف الطرق الالتفافية سيستمر، ولن نفاجأ إذا انتقلنا إلى مرحلة “التهجير الناعم جدًّا” حيث الإعلانات التي تبشر بحياة الرفاهية ذات “النجوم الخمسة” في أي مكان في العالم بعيدًا عن رمال غزة وشواطئها.