“الجزيرة” إذ تعوض العجز العربي

منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 وحتى طوفان الأقصى، كانت أغنية “وين الملايين؟” للشاعر الليبي علي الكيلاني هي المعبرة عن حالة العجز العربي تجاه ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قتل ودمار بينما الشعب العربي عاجز عن نصرته.
لا أبالغ إذ قلت إن هذه الأغنية بأداء 3 فنانات هن اللبنانية جوليا بطرس، والسورية أمل عرفة، والتونسية سوسن حمامي، هزت ولا تزال تهز وجدان كل من يسمعها إلى درجة البكاء “وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟ الغضب العربي وين؟ الدم العربي وين؟ الشرف العربي وين؟ وين الملايين؟”.
عقب العدوان الإسرائيلي على غزة، انتظر أهل القطاع تحركات عربية رسمية لدعمهم فلم يجدوا سوى بيانات الشجب والإدانة، بل الأفظع أنهم وجدوا دعمًا مباشرًا أو غير مباشر من حكومات عربية للكيان الصهيوني، فاتجهت أنظارهم إلى الشعوب العربية تسترخصها لعلها تستطيع دفع حكامها لتحسين صورتهم، وخرجت المظاهرات في بعض الدول العربية بينما مُنعت في غالبية تلك الدول للأسف، وحتى المساعدات المعيشية التي تسابقت الشعوب العربية في جمعها لم يصل معظمها إلى أهل القطاع.
“الجزيرة” حاضرة
مع هذا العجز والهوان العربي، الذي ذبح أهل فلسطين أكثر مما ذبحتهم طائرات الاحتلال وقنابله، كانت “الجزيرة” بشبكة مراسليها عند الموعد حاضرة، تنقل الحقيقة المجردة، وهو عمل مهني بامتياز كما تقول كتب الصحافة والإعلام. لم تتجاوز الجزيرة الحقيقة، لكن هذه الحقيقة مُرّة وقاتلة للعدو الذي سعى لتكريس صورة كاذبة عن جيشه “أكثر الجيوش أخلاقية”، فإذا بالبث الحي عبر شاشات الجزيرة العربية والإنجليزية و”مباشر” يضرب هذه الصورة في مقتل، فنحن أمام أكثر جيش همجي بربري، لا يحترم قواعد الحرب، ولا قواعد القانون الدولي الإنساني، ويتعامل بمنتهى الهمجية مع الشعب الفلسطيني الأعزل، بل يصفه بالحيوانات البشرية، ويتلذذ بقتل الأطفال والنساء، وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وأماكن النزوح والإيواء بما فيها تلك التابعة للأمم المتحدة.
حاولت سلطات الاحتلال احتكار الرواية عن حربها العدوانية، لتُخرج إلى العالم ما تشاء من صور ومعلومات مضللة مثل قطع رؤوس 40 طفلًا، أو اغتصاب نساء المستوطنات، وهي الروايات التي ثبت كذبها، واضطر بعض من رددها إلى الاعتذار عنها، وحاولت سلطات الاحتلال أن تُرهب المراسلين سواء الفلسطينيين أو الأجانب الذين يغطون أخبار العدوان، ورضخ بعضهم لذلك حفظًا لحياته، لكن مراسلي الجزيرة كانوا هم الأكثر تحديًا لتلك التهديدات رغم تكرارها لهم بشكل شخصي من السلطات العسكرية الإسرائيلية الرسمية، وكان بإمكان هؤلاء الذين تلقوا على هواتفهم رسائل التهديد المباشرة والمتكررة أن يتذرعوا بها للانتقال إلى أماكن أخرى أكثر أمنًا، أو حتى يتمارضوا أو يختفوا عن المشهد، لكنهم أبوا إلا البقاء تحت القصف الذي لم يرحمهم، ولم يرحم أسرهم، كان الاستهداف مباشرًا مقصودًا لمنازلهم ومنازل ذويهم بهدف الانتقام منهم، وكان أحدث الشهداء المصور سامر أبو دقة الذي تركه جيش الاحتلال ينزف لمدة 5 ساعات مانعًا أي إسعاف من الوصول إليه.
ملحمة مهنية نضالية
ملحمة مهنية ونضالية يسطرها مراسلو الجزيرة في حرب غزة، ومعهم أيضًا عشرات المراسلين الفلسطينيين الآخرين لقنوات وصحف محلية وأجنبية، ولا يقل دور هذه الكتيبة الإعلامية عن كتيبة النخبة المقاتلة، الفارق أن الكتيبة الإعلامية تدافع عن وطنها بسلاح الكاميرا بينما تدافع الثانية بالذخيرة الحية. الكاميرا هزمت أعتى الأسلحة التي أنتجتها مصانع السلاح الغربي وزودت بها الكيان الصهيوني، مشاهد القتل والدمار بتلك الأسلحة التي نقلتها كاميرات مراسلي الجزيرة ومن تبقى في القطاع غيرهم من المراسلين والمصورين الآخرين قلبت الرأي العام العالمي رأسًا على عقب بعد وصول صور الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين من أطفال ونساء ومنشآت طبية وتعليمية ودينية إلخ.
لكل واحد من مراسلي الجزيرة قصة ملهمة، وهنا نشير تحديدًا إلى الإعلامي وائل الدحدوح الذي استهدف جيش الاحتلال بيتًا لعائلته فقتل 25 جملة واحدة بينهم ابنه وابنته وزوجته، ولكنه لم يجلس باكيًا على مدافنهم، بل عاد على الفور إلى التغطية، وحين تعرَّض لاحقًا لاستهداف إسرائيلي متعمَّد رفقة زميله المصور الشهيد سامر أبو دقة فإنه (وائل) لم يقبل أن يبقى تحت العلاج طويلًا بل خرج على الفور بضمادات الجروح على ذراعيه، وقد استحق بأدائه المهني الراقي أن ترشحه نقابة الصحفيين المصرية لجائزتها السنوية لحرية الصحافة، كما استحق أن تضعه صحيفة صوت الأزهر المعبرة عن الأزهر الشريف غلافًا لها بوصفه رجل العام.
نحو 100 صحفي ومصور فلسطيني هم شهداء المهنة في غزة، للجزيرة منهم سهم وافر، هؤلاء الشهداء ليسوا مجرد صحفيين تقليديين يبحثون عن السبق الصحفي من أجل الشهرة والترقي الوظيفي، ولكنهم أصحاب قضية، يرون أن دورهم الإعلامي في نقل الحقيقة هو أكبر دعم لتلك القضية، كما أنهم لا يهابون الموت، وهنا نذكر مثلًا آخر الصحفي أنس الشريف المتعاون مع قناة الجزيرة، الذي أصر على البقاء في شمالي قطاع غزة بعد أن غادره غالبية المراسلين رغم الغارات المكثفة، ورغم رسائل التهديد العديدة التي وصلت إليه شخصيًّا، والذي فقد أخيرًا والده وعددًا من أقاربه في قصف متعمَّد لمنزله كان يستهدفه هو بالأساس.
تكريم عالمي مستحق
لم يكن دور الجزيرة في تعويض العجز العربي في فلسطين فقط، وفي أحداثها الكبرى قبل طوفان الأقصى سواء في الانتفاضة الأولى أو الثانية أو في الاعتداءات على المسجد الأقصى، ولكنها عوضت هذا العجز العربي في أحداث جسام أخرى، مثل العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله في عام 2003، حيث فقدت في حينه مراسلها طارق أيوب “الفلسطيني الجنسية أيضًا” كما فقدت المراسل رشيد والي في كربلاء في 2004، وكانت الجزيرة على موعد مع ثورات الربيع العربي ناقلة غضب الشعوب وتحركاتها حين ناصب الإعلام الرسمي تلك الثورات العداء، وفقدت “الجزيرة” في ليبيا مصورها علي الجابر، وفقدت في سوريا العديد من مراسليها مثل: محمد المسالمة، وحسين عباس، ومحمد القاسم، ومهران الديري، ومحمد الأصفر، وزكريا إبراهيم، وإبراهيم العمر، وفقدت في اليمن مراسلها مبارك العبادي، ولا ننسى مع هذا كله الأيقونة شيرين أبو عاقلة التي قتلها جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنين أثناء عملها في عام 2022.
يستحق الصحفيون والمصورون الفلسطينيون كل جوائز الصحافة العالمية، وهنا يجدر بنا توجيه التحية إلى الاتحاد الدولي للصحفيين الذي قرر ملاحقة الكيان الصهيوني أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائمه بحق الصحفيين، لكن المؤسف أن منظمات أخرى معنية بحرية الصحافة، وكنا نفاخر بدورها من قبل، انحازت إلى الظالم على حساب المظلوم تماهيًا مع ازدواجية المعايير الغربية، إذ تبنت منظمة “مراسلون بلا حدود” الرواية الإسرائيلية، زاعمة أن عددًا ممن قُتلوا من المراسلين لم يتم استهدافهم أثناء تغطيات مهنية، ولكنهم قُتلوا بالخطأ، وهو ما فندته نقابة الصحفيين الفلسطينية التي توثق ضحايا الصحافة أولًا بأول وفقًا للمعايير المهنية للتوثيق.