الحنين المُبرَّر إلى الماضي بسبب قسوة الحاضر!

علاء مبارك في مطعم كشري شهير بوسط القاهرة، وترحيب من النادل أثار جدلًا واسعًا (منصات التواصل)

 

قبل أيام كنت وابني نعبر شارع رمسيس إلى شارع معروف للوصول إلى منطقة وسط البلد بالقاهرة، وأثناء سيرنا مشيًا وجدنا أنفسنا بجوار محل كشري شهير، تناول فيه علاء مبارك وجبة مع عدد من أصدقائه قبل أشهر قليلة.

الفيديو الذي نشره أحد العاملين بالمحل المنوط به الترحيب بالشخصيات المعروفة والمهمة التي تذهب لتناول الكشري أثار جدلًا واسعًا، حيث يجيد هذا الموظف اللغة الإنجليزية، ويُحسن الترحيب برواد المحل الذي كان في البدء عربة تقف في الشارع لبيع الكشري، واليوم العربة صارت مبنىً متعدد الطوابق تعج طاولاته بالراغبين في تناول الكشري بنكهة مميزة.

الخاص والعام

وقصص النجاح من هذا النوع وفي مجالات مختلفة أكثر من أن تُحصى في مصر، ودومًا ينجح أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وبعضهم يكون نجاحه باهرًا، ويكبر مشروعه ويصير قاعدة صناعية وإنتاجية ضخمة والنماذج كثيرة.

والقطاع الخاص أكثر نجاحًا من الحكومة، فليس هناك مشروع واحد تديره أو تكون مسؤولة عنه فرض نفسه ونافس وحقق أرباحًا واتسع وتعدد نشاطه، ولدينا تجربة القطاع العام الذي فشل وانهار، وكثير من شركات القطاع العام كانت في الأصل مشروعات خاصة وأهلية ناجحة، وبعد تأميمها بدأ العد التنازلي في مسيرة ترهلها ثم بيعها.

قلت لابني: قبل أسابيع تناولتُ طبقًا متوسط الحجم في محل الكشري هذا بـ30 جنيهًا، والأكبر منه قليلًا بـ40 جنيهًا، وهناك أطباق خاصة بأسعار أكبر من ذلك.

وعدت معه بالذاكرة إلى عام 1990، عندما كان مقر أول جريدة أعمل بها يقع في هذه المنطقة، وبجنيه واحد كنت أتناول طبق كشري، وأجلس على المقهى لاحتساء الشاي وتدخين الشيشة التي توقفت عنها منذ 17 عامًا.

64 جنيهًا شهريًّا

وعندما قبضت أول راتب من هذه الجريدة، وكان 64 جنيهًا، كنت في غاية السعادة، وكان هذا المبلغ معقولًا في تمويل انتقالاتي من البيت إلى القاهرة، وفي داخلها، ثم العودة، مع تناول ساندويتش فول وفلافل وسط النهار.

فيديو طبق كشري علاء مبارك أثار وقتها جدلًا واسعًا، وكنت أظن أن رد الفعل المتوتر كان على مستوى إعلام السلطة واللجان الإلكترونية فقط، لكن ما لم يعلمه أحد أن الأثر امتد إلى مستوى أعلى وفق ما علمته بطريقتي، والمفارقة أن أحد أصحاب المحل قيادي في حزب (مستقبل وطن) بالقاهرة، وهذا غالبًا أثار الاستغراب خاصة مع الترحيب الحار بـ”علاء” في الفيديو والإشادة بوالده الرئيس الراحل، وهو الحنين الذي يأخذ كثيرًا من المصريين اليوم إلى زمن مبارك والحياة المعيشية التي كانت محتملة ومعقولة عند مختلف فئات المجتمع، فلم تكن هناك شكاوى كثيرة من الغلاء وارتفاع الأسعار والأزمات في مختلف السلع وقطاعات الإنتاج وهشاشة العملة الوطنية وضعفها وتراجعها أمام الدولار والعملات الأجنبية والخليجية.

الحكومة والدولار

واليوم يتم تقدير سعر كل سلعة وفقًا لسعر الدولار صعودًا في السوق السوداء (الموازية)، وهبوط الدولار في هذه السوق نادر، وإذا انخفض اليوم عدة قروش فإنه يرتفع غدًا أكثر من ذلك.

والحكومة غير قادرة على السيطرة على هذه السوق، أو أن الأمر فوق طاقتها، وربما يتحكم فيها أباطرة، أو شخصيات ثقيلة، فالغموض هو سيد الموقف في كل ما يحدث في البلد تقريبًا، فلا تعلم لماذا سوق موازية للدولار، ولماذا أغلقت شركات الصرافة أبوابها وهي كانت نافذة مُسيطرًا عليها حكوميًّا فيما يتعلق ببيع العملات وشرائها، واستمرارها كان أكثر أمانًا ورقابة بدل الظلام الحاصل اليوم في سوق النقد، إلا إذا كانت هناك مصالح خفية وراء وجود سوق سوداء للدولار، ووجود أزمات في السلع الأساسية مثل السكر والأرز والدقيق والبصل والبيض واللحوم والحديد والأسمنت ومواد البناء والأجهزة الكهربائية والإلكترونية والأخشاب وصولًا إلى علبة السجائر وباكو المعسل.

وإذا قمتُ بإعداد قائمة بأزمات السلع وارتفاع أسعارها فإنها ستطول، وتقريبًا لن يبقى شيء على حاله، واليوم يتم تقدير سعر السلعة وقت بيعها، ومن يشتري هذه اللحظة فعليه استلام بضاعته فورًا وإلا فإن بقاءها يعني سعرًا جديدًا لها.

ابني قام بقياس جاكت متوسط المستوى (سويتر) وجدنا ثمنه أكثر من ألف جنيه، وكان قبل وقت قصير بأقل من نصف هذا المبلغ، وخلال أسبوعين وجدت سعر شيء ما أريد شراءه تزايد مرتين.

هوس ارتفاع الأسعار

هناك هوس في ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث، وفيما عايشته من أزمات وأحداث كبرى طوال نصف قرن، منذ الصغر وحتى اليوم، لم يكن الواقع أشد قسوة مما هو حاليًّا.

والقسوة طالت، ويبدو أنْ لا نهاية قريبة لها، أو أن النفق طويل والضوء في آخره لا يظهر، فهل كان أحد يتوقع أن سيارة صينية الصنع يتجاوز ثمنها المليون جنيه بينما قبل سنوات كانت تبحث عن مشترين ولا يزيد ثمنها على 200 ألف جنيه، ما كل هذا الانفلات والفوضى في بلد نسبة كبيرة من شعبه تعيش يومها بالكاد حتى بات تدبير نفقات الطعام أمرًا مرهقًا؟

صناعة واقع صعب

إما أن الحكومة ليست بمستوى المسؤولية الملقاة عليها، أو أن خطط السلطة للتنمية وسياساتها العامة لم تكن مدروسة، وكانت خبط عشواء، أو أن هناك احتكارات ومصالح تتحكم، وبالفعل هناك مشكلة حقيقية ومؤرقة في الإدارة العامة.

الوضع خطير، وإذا كانوا يرون الربيع العربي أساس البلاء، فإنهم يصنعون واقعًا أصعب من الواقع الذي دُفع لهذا الربيع وأكثر قسوة مما عاشته البلاد خلال حروب 1956 و67 و 73 واغتيال السادات في 81، وما بعد يناير 2011.

هناك حنين مُبرَّر حقيقي إلى الماضي، حتى في الفن والدراما والموسيقى والطرب والعلاقات الإنسانية والشخصية، نحن في مرحلة كان أكثر المتشائمين لا يتوقعها.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان