عبد الناصر عندما صافح وكرَّم الشيخ عمر عبد الرحمن

الخميس الماضي، 21 ديسمبر/كانون الأول، توقف ريموت التلفاز عند قناة (ماسبيرو زمان)، فقد لمحت عبد الناصر في احتفال حاشد، تابعت الشاشة، وهي بالأبيض والأسود، وكانت المناسبة الاحتفال بعيد العلم الـ11، بتاريخ 21 ديسمبر 1965.
بين التاريخين، 58 عامًا، تاريخ احتضان قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة لعيد العلم، وتاريخ إعادة إذاعة الحفل على قناة تعيد بث كل قديم في أرشيف التلفزيون المصري.
ومن اختار ليلة الخميس للتذكير بالاحتفال كان ذهنه حاضرًا، فهو اليوم نفسه الذي أقيم فيه عيد العلم، وهو 21 ديسمبر، والاحتفال ظل يُقام في هذا الموعد سنويًّا، واختير هذا اليوم الذي افتُتحت فيه جامعة القاهرة عام 1908، وهي أول جامعة مصرية تم بناؤها بأموال التبرعات، وكانت الدراسة فيها مقابل مصاريف ثم تحولت إلى المجانية.
عادة فرعونية
وعلى غير العادة، يذاع حفل يحضره رئيس جمهورية راحل في ظل وجود رئيس حالي، ذلك أنه من رصد تاريخ السلطة في مصر نجد الحاكم يتسيد وحده المشهد العام، ويرى نفسه نقطة البداية في تاريخ الدولة، وأنه جاء لإنقاذها أو بنائها، ويُقال إنها عادة فرعونية أصيلة.
نظام عبد الناصر كان يصف العهد الملكي الذي انقلب عليه بأنه العهد البائد، وكلمة بائد تعني زائل ومنقرض، ويُوصف السادات بأنه سار على خط عبد الناصر لكن بأستيكة (ممحاة)، أي مشى في اتجاه معاكس له، وفي حوار شهير له مع همت مصطفى -رئيسة التلفزيون حينئذ- قال إنه يبني بلدًا لم تطاله يد التعمير منذ عقود، ليشطب بذلك عهود كل من سبقوه في الملكية وكذلك عبد الناصر.
ومبارك ظل يردد أنه استلم بلدًا بنيته الأساسية متهالكة، وكان يستدل على ذلك بأن من كان يريد إجراء مكالمة دولية لم يكن يستطيع ذلك في مصر، وكان يذهب إلى بلد قريب للاتصال.
أما الحكم الحالي فيقول إنه استلم (بلد كُهَنْ)، وإنه يبني جمهورية جديدة بدل القديمة التي لم تعد صالحة.
وهكذا فنحن أمام عصور وحكام يتسم كل منهم بأنه التاريخ وأنه الإنجاز وأنه الهبة التي قيضها الله للبلد والشعب، وهذا كلام غير واقعي بدليل أن البلد ينتقل من عهد إلى آخر بمواريث الأزمات التي تتزايد وترتفع كالجبال.
مفاجأة عمر عبد الرحمن
مفاجأة ذلك الحفل كانت في وجود اسم عمر عبد الرحمن ضمن المكرَّمين المتفوقين من جامعة الأزهر؛ أساتذة وطلابًا، فقد حصل في ذلك العام 1965 على الإجازة العالمية من كلية أصول الدين بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف (ليسانس)، وهو ضرير منذ طفولته.
وهو شخصية دينية جدلية، قضى حياته بعد تخرجه ما بين الإيقاف عن العمل أو النقل من عضوية هيئة التدريس إلى وظيفة إدارية بجامعة الأزهر، أو المطاردات والاعتقالات والمحاكمات وأشهرها كانت في قضية اغتيال السادات، إذ اتُّهم بالتحريض على قتله والإفتاء بذلك وتوليه الزعامة الروحية للجماعة الإسلامية، وبعد 3 سنوات من المحاكمة برأته محكمة أمن الدولة العليا في القضيتين اللتين كان يُحاكَم فيهما.
عمل سنوات قليلة في السعودية، وسافر إلى السودان، ومن هناك حصل على تأشيرة دخول إلى أمريكا عام 1990، وما هى إلا فترة قصيرة قضاها حرًّا حتى جرى اعتقاله عام 1993 بتهمة التحريض على تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك، وحُكم عليه بالمؤبد، وظل قابعًا في السجن حتى تُوفي في زنزانته عام 2017.
وظل يؤكد براءته، وحاول الرئيس مرسي التدخل للإفراج عنه وإعادته إلى مصر لكن واشنطن رفضت، كما سعت قطر للغرض نفسه واستضافته في الدوحة، ومحاولاتها لم تُكلل بالنجاح.
في تلك الليلة كان عمر عبد الرحمن ضمن عدد كبير من المكرَّمين؛ أساتذة جامعات وأكاديميين وأطباء وضباط متخصصين وفنانين وأدباء ومفكرين ومثقفين وأوائل الخريجين، وكان في طابور المكرَّمين نفسه مع طه حسين وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعاطف صدقي وحمدي السيد وسامية الساعاتي وموسى شاهين لاشين وفايدة كامل وكمال الشناوي وغيرهم، وقد تقلد بعضهم مناصب رفيعة، أو حققوا شهرة واسعة، أو صاروا علماء متبحرين في تخصصاتهم.
ولاحظت أن النساء المكرَّمات وكذلك الحاضرات في القاعة لم تكن بينهن من ترتدي حجابًا، كما لاحظت وجود عدد لا بأس به من المصريين المسيحيين ضمن المكرَّمين.
لو عاد إلى الحياة
لو عاد الشيخ عمر عبد الرحمن إلى الحياة مرة أخرى، فهل كان سيختار طريقه نفسه الذي واجه فيه التضييق والاتهامات والفرار إلى الخارج والموت في السجن، أم كان سينتهج مسار التعمق في العلم ليصير أحد كبار زمانه، ولا يُصنف في خانة التشدد والملاحقات في مصر ثم أمريكا.
وأزمته مع الأنظمة بدأت مع عبد الناصر بعد وقت قليل من تكريمه، مع أن وجهه بدا متهللًا وهو يصافحه ويستلم شهادة التقدير منه.
وهذا يقودنا إلى أزمة الصدام الدائم بين أصحاب الأيديولوجيات الدينية؛ أفرادًا وجماعات وتنظيمات وأفكارًا وممارسات، والأنظمة سواء في مصر أو غيرها من البلدان. هل هذا الصدام حتمي، ومع هذا التيار تحديدًا، أم هو نتاج أزمة انعدام التسامح والحوار وعدم قبول الآخر واحتكار السلطة وغياب الديمقراطية بوصفها حكمًا بين أصحاب الأفكار المتعارضة؟ ألا من نهاية لهذا الصدام أو التضاد الخشن أو الكراهية السوداء حيث أخطارها كبيرة على استقرار الأوطان وكرامة الإنسان ورفاهيته؟
مرة وحيدة رأيت فيها عمر عبد الرحمن مع الشيخ صلاح أبو إسماعيل وأحمد الخواجة وآخرين من كبار شخصيات تلك المرحلة في ندوة حاشدة بنقابة المحامين عام 1987، حيث استمعت لخطاب سياسي وديني مختلف عما أسمعه في المنابر الرسمية والأهلية.
احتفال العلم وتكريم العلماء كان أيضًا تعظيمًا لـ”عبد الناصر” عبر أغاني الإشادة به وخطابات وكلمات وهتافات ترفعه إلى عنان السماء، وهي الآفة المستمرة حتى اليوم التي تصنع الحاكم الفرد وتُخّلد الفرعونية.
