5 ملامح لخريطة قتل الصحفيين الفلسطينيين و2023 عامهم بامتياز

بين قتل جيش الاحتلال الصهيوني المتعمد يوم 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري 2023 للزميل “سامر أبو دقة” المصور الصحفي بقناة الجزيرة في خان يونس، بتركه مصابا ينزف محتضرا على الهواء مباشرة دون السماح بإسعافه نحو ست ساعات، وبين 19 ديسمبر فقط، انضم لقائمة شهداء الصحفيين والعاملين بالصحافة في قطاع غزة أربعة آخرون على الأقل، وهم: “حنين قشطان” و”عاصم موسى” و”عبد الله علوان” و”عادل زعرب”.
وهكذا ترتفع حصيلة قتل الاحتلال للصحفيين الفلسطينيين إلى 62 شهيدا خلال 80 يوما منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهذا وفق آخر تحديث لقائمة إحصاء موثق تصدر عن “اللجنة الدولية لحماية الصحفيين” من مقرها في نيويورك، حتى صباح أمس 25 ديسمبر 2023. وقد نبهت إلى أنها ما زالت تجري تحقيقاتها في المزيد من حالات القتل لصحفيين فلسطينيين بغزة ما زالوا خارج هذه القائمة.
3 منظمات دولية كبرى
تتقدمها اللجنة
وتتقدم هذه اللجنة بمكانتها المعنوية على الصعيد العالمي منظمات دولية كبرى معنية بحرية الصحافة وسلامة وحقوق الصحفيين، مع “مراسلون بلا حدود” في باريس، و”الاتحاد الدولي للصحفيين” ببروكسل. وأصبحت اللجنة، على نحو خاص، منذ نهاية الحرب الباردة مطلع عقد التسعينيات المصدر الأهم الموثوق به والأكثر مصداقية بشأن حالات قتل الصحفيين في العالم خلال ممارستهم عملهم أو بسببه. وتداوم على نشر تقارير سنوية عن هؤلاء الضحايا بإحصاءات موثقة، وبعد إعمال معايير مهنية صارمة في تعريف من هو الصحفي؟ وهل يتعلق القتل فعلا بممارسة المهنة؟
وربما تبدو قائمة “لجنة حماية الصحفيين” عن ضحايا حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة من الصحفيين الفلسطينيين أقل عددا وأكثر تحفظا من تقديرات غير رسمية تذهب إلى أنهم تجاوزوا التسعين أو المئة. وأيضا بالمقارنة بقائمة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، يظهر آخر تحديث لها بموقعها النقابة الإلكتروني 76 شهيدا حتى 4 ديسمبر الجاري. وهو رقم يتبناه “الاتحاد الدولي للصحفيين” إلى حد كبير.
أما “مراسلون بلا حدود” فعادت، بعدما تعرضت لانتقادات من النقابة الفلسطينية في 15 ديسمبر، لترفع بعد أسبوع واحد اعترافها بهؤلاء الضحايا من 13 إلى 66. وتزامن هذا التحول مع إعلان المنظمة التقدم بشكوى جديدة ضد إسرائيل للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الاستهداف المتعمد لسبعة صحفيين فلسطينيين في غزة، ووصف أمينها العام “كريستوف ديلوار” ما يجرى في القطاع بأنه “مجزرة للصحفيين”.
قتل الصحفيين
بجنون يفوق الخيال
هو إذن جنون ويفوق الخيال، عندما يجرى كل هذا الاستهداف بالقتل للصحفيين بهدف إخفاء حقائق بشاعة وجرم حرب الإبادة بغزة، وفي هذا الحيز الزمني والمساحة الجغرافية المحدودين. وبنص بيانات اللجنة الدولية فإن “هذه هي أكثر حصيلة قتل للصحفيين منذ بدأت المنظمة في جمع هذه المعلومات انطلاقا من عام 1992”.
ومن أجل عطائهم وأعمالهم البطولية، التي لا تتطلب فقط عواطف وبلاغة قد تتبدد بالوقت، نحاول في هذا المقال التوصل إلى حقائق واستخلاصات ترسم ملامح خريطة الاستهداف الصهيوني بالقتل لهؤلاء المناضلين المجاهدين من أجل الحقيقة بالمعلومة والصورة. وهذا من واقع أحدث قائمة “اللجنة الدولية لحماية الصحفيين”، التي وثقت بالأسماء 62 شهيدا في قطاع غزة، علاوة على 13 مصابا و3 مفقودين و20 معتقلا (أسيرا رهينة). وقد أضافت إليهم اللجنة ثلاثة صحفيين شهداء في جنوب لبنان، وأربعة من الصحفيين الإسرائيليين قضوا أثناء هجوم 7 أكتوبر، ومن بينهم اثنان في الحفل الموسيقى بجوار غزة، الذي حققت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية لاحقا، فكشفت مسؤولية قصف طائرة للجيش الصهيوني عن ضحاياه.
المصورون الصحفيون
في الواجهة والمواجهة
يستأهل كل زميلة وزميل على قوائم الشهداء نصا بمفرده يروي بطولته وتضحياته ومعاناته، لكننا من أجل استكشاف الملامح العامة لخريطة الاستهداف بالقتل هذه، استخلصنا من قراءة قائمة الشهداء الـ62 للجنة الدولية المشار إلى إطارها الزمني اعتبارا من 7 أكتوبر 2023 ونطاقها الجغرافي في حيز قطاع غزة، الاستنتاجات الخمسة التالية:
ـ الاستنتاج الأول يتعلق بنصيب المصورين الصحفيين البالغ عدد شهدائهم 14 زميلا، وذلك بنسبة نحو 23 في المئة. والأرجح أن المصورين الصحفيين الشهداء المستهدفين بالقتل من الاحتلال يزيدون عددا ونسبة، إذا ما أخذنا التطورات المتسارعة في حقل صحافة وإعلام الوسائط المتعددة، التي ألغت تقسيم العمل السابق في المهنة. وأنجزت على صعيد عالمي احتراف الصحفي للكتابة والتصوير الفوتوغرافي وبالفيديو وغيرها من فنون معًا، وبتقنيات أيسر وأكثر إتقانا وجودة.
وارتفاع نسبة المصورين الصحفيين بين شهداء الحرب على غزة أمر منطقي أيضا بمقتضى ضرورة حضروهم في الميدان، ووسط مخاطر عدوان حرب الإبادة المستمرة وبأشد الأسلحة الأمريكية فتكا. وكذلك لإدراك الجيش الصهيوني لأهمية وخطورة الصورة وعظمة تأثيرها، وسهولة تداولها، وشيوع تلقيها على صعيد عالمي متخطية حواجز اللغات ومعالجة وفهم النصوص.
واللافت أن هؤلاء المصورين الفلسطينيين في غزة كانوا مبكرا بعد 7 أكتوبر هدفا للإرهاب الصهيوني وتهديدات وملاحقات وضغوط السلطات الإسرائيلية، وذلك لأنهم نقلوا للعالم عبر وسائل الإعلام الغربية الكبرى الصور الأولى لآثار هجوم المقاومة على جوار القطاع، وما صحبه من إذلال جيشه ونخبته. وهذا بعدما اعتمدت الحكومة الإسرائيلية سياسة منع الصحفيين الأجانب من دخول قطاع غزة، باستثناء من تصحبهم في مدرعاتها مقيدين بسلاسل رقابتها العسكرية الصارمة وأحابيل دعايتها الكاذبة.
وعندما يُكتَب تاريخ هذه الفترة، لا بد من ذكر تحريض بيانات رئيس الحكومة “نتنياهو” ومراسلات وزير إعلامها “شلومو كارهي” لوكالتي “رويترز” و”أسوشيتد برس” وصحيفة “النيويورك تايمز” وشبكة “سي إن إن”، على عدد من المصورين الصحفيين الفلسطينيين بالأسماء. ومعها ردود الفعل بين الاستجابة كحال الشبكة الأمريكية التي أعلنت وقف التعامل مع الزميل “حسن أصليح”، وبين رفض الجهات الثلاث الأخرى للتجاوب مع ابتزاز الإرهاب الصهيوني، وتفنيدها للمزاعم الكاذبة بأن هؤلاء المصورين الصحفيين كانوا على علم مسبق بالهجوم ورافقوه من بدايته، وللامنطق المجنون بأنه كان عليهم إبلاغ السلطات الإسرائيلية مسبقا به (!).
13 في المئة
من الشهداء صحفيات
ـ ويأتي الاستنتاج الثاني بشأن نصيب الصحفيات بين هؤلاء الشهداء البالغ 8 شهيدات، بنسبة نحو 13 في المئة. وهذا بدوره إسهام مقدر في عالم عربي ما زالت غالبية التنظيمات النقابية والجمعياتية لمهنة الصحافة فيه تنكر على الزميلات تمثيلا مستحقا في هيئاتها القيادية يجاري زيادة حضورهن في الجمعيات العمومية. وهذا باستثناء “النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين” تقريبا. ولننظر إلى حال النقابة المصرية كبرى هذه النقابات، إذ لا تشغل المرأة إلا مقعدا واحدا من إجمالي 13 في مجلسها الحالي، وإن كانت نقابة الصحفيين الفلسطينيين وفق تشكيل مجلس أمنائها الأخير أفضل حالا نسبيا، بحضور 6 زميلات بين إجمالي 21 عضوا بالمجلس.
غالبية المستهدفين من
المستقلين والوسائل المستقلة
ـ والاستنتاج الثالث يكشف عن نسبة غالبة بين هؤلاء الشهداء من فئة الصحفيين المستقلين (فري لانسر) غير المرتبطين بعمل مستقر داخل مؤسسات صحفية وإعلامية، وكذا العاملين في صحف ومؤسسات توصف بأنها “مستقلة”. ويبلغ عدد هؤلاء الشهداء 35 ويشكلون نسبة نحو 56 في المئة من إجمالي هذه القائمة الدولية.
ويأتي في المرتبة التالية مباشرة وفق أماكن العمل والارتباط بها الشهداء من فئة الصحفيين بوسائل إعلام محسوبة على حركة “حماس” أو مقربة منها، وبخاصة “تلفزيون القدس” و”فضائية وراديو الأقصى”. واللافت أيضا أن من بين هذه الفئة من يشغلون مناصب عليا كالمديرين، وهو ما يفيد بأننا إزاء عمليات اغتيال منتقاة للعاملين بالصحافة، وليست متعمدة فقط. وهم هنا 17 صحفية وصحفيا بنسبة نحو 28 في المئة. وجاء نصيب الصحفيين العاملين في مؤسسات محسوبة على حركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية شهيد واحد.
ومن الأمور التي تنبه إلى استهداف آلة قتل الاحتلال للصحفيين الفلسطينيين على اختلاف سياسات وتوجهات المؤسسات التي يعملون بها أو لها، أن هناك 7 شهداء ينتسبون إلى وسائل إعلام السلطة الفلسطينية وحركة “فتح”، وبخاصة “تلفزيون فلسطين” الذي كان نصيبه خمسة شهداء. ومن جانبها، قدمت وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا” شهيدا واحدا.
أما فئة المؤسسات العربية والأجنبية فقد انحصر عدد شهدائها في زميل شهيد واحد من قناة الجزيرة هو “أبو دقة”، وآخر من وكالة الأناضول التركية هو المصور الصحفي الشهيد “منتصر الصواف”، علما بأن شهداء آخرين ضمن هذه القائمة كانوا يتعاونون مع مؤسسات عربية وأجنبية، ومن بينها الجزيرة، وبعضهم يسهم في هذه المؤسسات إلى جانب عملهم الأساس مع هذه المؤسسة الفلسطينية أو تلك.
40 في المئة استشهدوا
بين أهلهم ومعهم
ـ ويختص الاستنتاج الرابع بالتوزيع المكاني والجغرافي لأماكن الاستهداف/ الاستشهاد. وهنا نلاحظ أن 25 شهيدة وشهيدا على الأقل بنسبة عالية، هي 40 في المئة، قتلتهم قوات الاحتلال في بيوتهم ومنازل أهلهم، ومع أفراد من أسرهم وعائلاتهم، وبخاصة أقارب الدرجة الأولى. وهو ما يدمغ هذا القتل بجرائم تتبع وملاحقة الصحفيين بالاغتيال والعقاب الجماعي. وتعزز هذه السياسية الإجرامية ما أبرزته هذه الحرب من استهداف عائلات الصحفيين بالقتل الجماعي، كما هي حالة زميلنا مدير مكتب الجزيرة بغزة “وائل الدحدوح”، الذي تلقى بصبر وثبات بطوليين استشهاد زوجته وابنته وابنه وحفيده. ثم سرعان ما استأنف عمله المهني في خدمة الحقيقة والمعلومة والجمهور.
ووفق جغرافيا غزة، يتوزع الشهداء على: 30 في مناطق شمال القطاع متضمنة مدينة غزة ومخيماتها وضواحيها (6 من بينهم)، مسجلة النسبة الكبرى بنحو 48 في المئة. ثم تاليا جنوب القطاع بعدد 14 شهيدا، بنسبة نحو 23 في المئة. وثالثا وأخيرا وسط القطاع بستة شهداء. وهو ما يعكس إلى حد كبير مجريات حرب الإبادة الصهيونية للشعب الفلسطيني إلى اليوم. وعلما بأنه يبقى 12 شهيدا لم تحدد قائمة “لجنة حماية الصحفيين” بالضبط أماكن استهدافهم وقتلهم.
وخامسا.. وكي تكتمل ملامح خريطة القتل/ الاستشهاد الصحفي هذا، يتوزع الصحفيون الضحايا الـ62 زمنيا على النحو التالي: 48 شهيدا بنسبة نحو 79 في المئة بين 7 أكتوبر و23 نوفمبر أي خلال فترة ما قبل “الهدنة الإنسانية المؤقتة”، و12 شهيدا في الفترة التالية لانتهاء الهدنة من 24 نوفمبر إلى 25 ديسمبر الجاري، بنسبة نحو 18 في المئة. وقد سجل أسبوع الهدنة ارتقاء شهيدين.
هذا عامهم بامتياز..
لكن كيف؟
متابعة وتحديث خريطة قتل الصحفيين الفلسطينيين في حرب الإبادة الصهيونية المستمرة على غزة تنير جوانب في ملحمتهم التاريخية. وهم يستحقون عن جدارة أن يكون 2023 هو عامهم بامتياز، وتكريما وتخليدا يليق بنضالاتهم وتضحياتهم ومهنيتهم. ومن شأن هذه المتابعة والتحديث أيضا أن تدعم مستقبلا مساعي وجهود ملاحقة القتلة أمام المحاكم الدولية، وعدم إفلاتهم من العقاب. وبالأصل وقبل حرب الإبادة الجارية في غزة، وثقت “لجنة حماية الصحفيين” بعد تحقيقات دقيقة وبحلول الذكرى السنوية الأولى لاغتيال مراسلة الجزيرة بالضفة والقدس الشهيدة “شيرين أبو عاقلة” 9 مايو 2023 قتل جيش الاحتلال 20 صحفيا فلسطينيا على مدى نحو 20 عاما مضت، بدون اتهام أو محاسبة للقتلة في أي حالة منها.
وحسنًا فعلت نقابة الصحفيين المصريين مؤخرا بإعلان مجلس أمناء جوائزها ترشيح الزميل “الدحدوح” لجائزة حرية الصحافة هذا العام. لكن ثمة الكثير المطلوب عمله يقع على عاتق الصحفيين العرب وتنظيماتهم النقابية اتجاه تضحيات زملائهم الفلسطينيين وعائلاتهم من أجل الحقيقة والمهنة وقضايا شعبهم. وهي تضحيات غير مسبوقة عالميا، وعلى مدى نحو ثلاثة عقود وثقت خلالها كبريات المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة وحقوق الصحفيين وسلامتهم حالات قتل الصحفيين في مواجهة الحروب والاستبداد والفساد.
وأمام الصحفيين العرب وتنظيماتهم وعلاقاتهم الدولية مهاهم واجبة قد تحتاج إلى تناول مستقل لاحقا. وليكن 2023 عام الصحفيين الفلسطينيين بامتياز، لكن كيف؟ هذا هو السؤال.