لماذا تحتاج إسرائيل لمن يقوم بـ”تغليف الغائط”؟

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

أعتذر ابتداءً لأن العنوان ليس من عندي، ولا ينتمي إلى قاموسي في الكتابة، لكنه اقتباس من مقال ورد في الصحافة الإسرائيلية يصف كاتبه ما يعتقد أنها المهمة الأساسية للمتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي.

ففي مقال جريء بصحيفة (هآرتس) الإسرائيلية كتب المحلل السياسي (حاييم ليفنسون) تحت عنوان “الإسرائيليون يحتاجون إلى أكاذيب المتحدث باسم الجيش ليصدّقوا أننا انتصرنا”، شارحًا ما وصفه بأنه “صناعة الكذب في إسرائيل”.

يرى الكاتب أن هناك صراعًا في إسرائيل بين “صناعة الكذب” و”صناعة الكآبة”، وأن “صناعة الكذب” هي السلعة الأكثر رواجًا الآن والأكثر طلبًا في إسرائيل بينما من يحاول أن يقول “الحقيقة” يُتهم بأنه جزء من صناعه الكآبة والإحباط، أو بأنه يساري أو يعمل مع قناة الجزيرة.

ويدلل “حاييم” على ذلك بمناسبة ما أعلنه الجيش الإسرائيلي على لسان الناطق العسكري العميد “دانيال هغاري” قبل أيام عن اكتشاف نفق عملاق أنشأته “حركة حماس” يمتد من جباليا إلى معبر “إيريز” وهو كبير لدرجة أنه يتسع لسيارة.

يستدعي الكاتب تسجيلًا صوتيًّا انتشر شعبيًّا عبر مجموعات تطبيق “واتساب” في مايو/أيار 2021، عندما قام الجيش الإسرائيلي بقصف غزة في عملية عُرفت باسم “حارس الأسوار”، هذا التسجيل كان المتحدث فيه منفعلًا وهو يصف عملية كبرى قام بها جيش الدفاع الإسرائيلي باستخدام 160 طائرة قامت بإلقاء 450 طنًّا من المتفجرات خلال نصف ساعة، واستطاع الجيش أن ينهي العملية دون خسائر، وأن العملية نتج عنها تصفية أو تدمير كل الأنفاق ومنصات إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية، ويدلل المتحدث على نجاح العملية بأن “حماس” لم تطلق في هذه الليلة أي صواريخ على إسرائيل، وأن هذه ليست صدفة.

يشرح الكاتب أن هذا التسجيل كان منسوبًا إلى قائد سلاح الجو “عاميكام نوركين” لكن الحقيقة أنه كان بصوت المراسل العسكري لموقع “والاه” العبري “أمير بوحبوط” الذي وصفه ليفنسون بأنه “مراسل مثير للاشمئزاز”.

العجرفة والزهو

ويقارن المقال بين العجرفة وحالة الزهو التي خلفها التسجيل -المنسوب بالخطأ إلى قائد عسكري- عن تدمير الأنفاق، والإعلان عن اكتشاف الأنفاق خلال الحرب الحالية على غزة.

يرى الكاتب أن هناك حملة منظمة منذ عملية “حارس الأسوار” استهدفت الجمهور الإسرائيلي، هدفها إقناع الإسرائيليين بأن جيشهم رهيب وبأن سلاح الجو لا مثيل له في العالم.

ويلفت إلى أن هذه الحملة دأبت على استخدام كلمات محبَّبة لدى الجمهور العام في إسرائيل مثل “قاسية” و”قاصمة” عند وصف أي ضربة توجَّه إلى حركة حماس، ومثل عبارة “أعدنا الردع” عند الحديث عن أثر أي عملية على توازن القوى مع الحركات الفلسطينية المسلحة.

يتهم “ليفنسون” سياسيين وقادة عسكريين في الاحتياط وصحفيين -لم يسمّهم جميعًا- بأنهم ائتلفوا واتحدوا يدًا واحدة لترويج ما عَدَّه “الدعاية الكاذبة التي تحطمت على وجوهنا في 7 أكتوبر(تشرين الأول)”، لكنه يعود ليتحدث كمواطن ملقيًا باللوم على الإسرائيليين أنفسهم، مستخدمًا ضمير المتكلم “ليس لنا أن نلوم إلا أنفسنا”، ويعود بسرعة ليتحدث عن الغائب، وكأنه ليس منهم “الإسرائيليون يحبّون أن يتم تضليلهم والكذب عليهم”.

وفي تعبير صادم يقول المحلل السياسي “كل ما يفعله الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي هو أنه يأخذ الغائط، ويغلفه بالعطور، ويبيعه كطعام شهي، فليس هنالك مَن يريد أن يسمع أن لدينا جيشًا متوسطًا مع استخبارات فاشلة، بإمكان تنظيم إرهابي أن يجعله يركع”.

للتدليل على كلامه وللتذكير بمقاصده، أرفق الكاتب مقاله في النسخة الإلكترونية بمقطع فيديو نشره الناطق باسم الجيش الإسرائيلي قبل عامين عن مهاجمة أنفاق “مترو حماس” خلال عملية “حارس الأسوار”.

ولم يكتف بذلك، لكنه نقل مقطعًا ثانيًا عن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في مؤتمر صحفي وقت عملية “حارس الأسوار”، وهو يعلن بكل فخر وغرور “أصبنا نشاط حماس تحت الأرض إصابة مباشرة”.

ويضيف نتنياهو “حماس وظفت عقدًا كاملًا (10 أعوام) وأموالًا طائلة في حفر الأنفاق، وغالبيتها، ليس كلها، جزء غير قليل منها ذهب هباءً منثورًا، لقد تحوّل مترو حماس من ثروة استراتيجية إلى مصيدة لموت المسلحين”.

ثم يستذكر الكاتب تصريحًا مماثلًا لوزير الأمن “بيني غانتس”، وهو يستعرض كيف أن الجيش الإسرائيلي حوَّل أنفاق حماس تحت الأرض إلى مصيدة للموت، وقطار إلى جهنم، وكيف أكد المراسلون العسكريون دون استثناء الكلام نفسه.

نهج قديم

ثم يدلف “حاييم” بسخرية لافتة إلى حكاية شخصية له، تدل على أن الكذب نهج قديم للجيش الإسرائيلي، وكيف أنه جلس مع مراسل عسكري يكبره بعشرات السنين، حكى له فيها عن اللحظة التي قرر فيها أن يكون صحفيًّا عندما كان مجندًا في حرب يوم الغفران (6 أكتوبر/تشرين الأول 1973)، ويقضي حاجته بينما كان يمسك بصحيفة تتحدث عن حجم الضربات التي ينزلها جيش الدفاع الإسرائيلي بالمصريين والسوريين، وكيف أنه قرر أن يكون صحفيًّا ليقول الحقيقة للناس.

يمضي الكاتب مستعرضًا أصواتًا قليلة في الصحافة الإسرائيلية، تؤكد أن ما قاله الجيش الإسرائيلي في عام 2021 لم يكن حقيقيًّا، وأنه كان مجرد “كذبة واحتيال على الذات وخداع للنفس”.

وينتهي الكاتب إلى مصارحة “تحتاج إسرائيل إلى الفطام عن أمور كثيرة منذ 7 أكتوبر، الأساسي منها هو الكذب على أنفسنا”.

ويشرح “نحن نتبجح بحملات الإعلام المدعومة بالرسائل والفيديوهات دون أن ننتبه إلى حقيقة أن الجمهور المستهدف هو نحن، وليس الجمهور خارج إسرائيل”.

وبعد حشد كل هذه الحجج، يصل الكاتب إلى نقطة الهجوم الكاسح على نتنياهو “15 سنة لدينا رئيس حكومة، الكذب هو عقيدته، نشر الأكاذيب والكلام الفارغ هو اختصاصه، وتعمية أبصارنا هو مصدر رزقه، حريص دائمًا على أن يصور نفسه والجيش بأنهما عظيمان، قويان، يوجّهان إلى العدو ضربات ساحقة، وهو مدعوم من الجيش وصحفيين يدورون في فلكه”.

كلنا خسرنا

وفي اعتراف بالتقصير، يقول الكاتب “الناطق باسم الجيش انتصر، نحن كلنا خسرنا”، ويربط حاييم بين ما وصفه بـ”عادات 6 أكتوبر” في الدعاية الذاتية وما جرى بعد 7 أكتوبر من العودة إلى استخدام عبارات، مثل: إننا على وشك تدمير حماس، وإننا سنعيد الأسرى على الفور بفضل الضغط العسكري، وإن وجودنا في الميدان سيصنع الفارق.

ويشرح الكاتب الميل الإنساني إلى “اختيار الاعتقاد بأن كل شيء جيد بدلًا من أن كل شيء سيئ، وأنه من الممتع التفكير بعملاء جهاز الأمن العام (الشاباك) الذين ينجحون في جعل الحجارة تتكلم، ويجلسون في قلب سمّاعة هاتف يحيى السنوار، ومن الممتع أكثر -بالتأكيد- أن تصحو على محللين فرِحين من أن تصحو على محللين يقولون إن الجيش الإسرائيلي غير مستعد، وأن مستوى قيادتنا بين المتوسط والفاشل”.

لكن الكاتب الذي تهكم سابقًا من تسمية عملية “السيوف الحديدية” وسمّاها عملية “إسقاط السراويل”، في إشارة إلى أسر قادة وجنود إسرائيليين بملابسهم الداخلية بأيدي حماس، ينهي مقاله “ثمة ثمن للمخدرات، وفي اليوم الذي ينفد فيه أثرها، سيكون لدى إسرائيل فرصة للفطام”.

وبصرف النظر عن أن هذا المستوى في الحديث عن الجيش والشؤون العسكرية غير موجود في عالمنا العربي، وعن أن الجرأة في نقد مواقف رئيس الوزراء والمستويات الأعلى غير مألوفة لدينا، وعن أن المقال الذي نُشر قبل أسبوع وقت الحرب في دولة أمنية لن يتعرض صاحبه لأي ملاحقة قضائية أو اتهامات بالخيانة، فإن ثمة ما يشير إلى أن الصورة التي نعتقدها عن الصحافة الإسرائيلية التي تدور في فلك الاحتلال ليست حقيقية، وأن صورة مكذوبة للجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وأن المقاومة الفلسطينية ضعيفة ومتهورة، يجري تسويقها لدينا بمساعدة “جوقة نتنياهو”، كما وصفها “حاييم ليفنسون”، لكن الأمر الأكثر أهمية هو أننا بحاجة ماسّة حقيقية إلى مصارحة أنفسنا -نحن العرب- على طريقة “هآرتس”، لكي نفضح بأيدينا أولئك الذين يغلفون الغائط في بلادنا، ويرشون عليه العطور ليبيعوه لنا.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان