ثلاثة مشاهد مصرية من وحي “الطوفان”

بمقدار ما هزت عملية طوفان الأقصى العالم، وبقدر ما أعادت قضية فلسطين إلى صدارة المشهد العالمي، ولفتت أنظار الرأي العام الدولي إلى الشعب الذي يعاني ويلات الاحتلال، أنتج “الطوفان” تأثيرات واضحة ومهمة في الداخل المصري، وأثبت أن المجتمع المصري لا يزال حيًّا وحيويًّا وقادرًا على منح فلسطين كل ما يستطيع تقديمه، هذا المجتمع المصري العربي الذي ظل منذ اليوم الأول للعدوان يساند ويدعم بقدر ما يستطيع، وهو يشعر بأن ما يقدمه واجب وفريضة لا منة ولا منحة.
من بين تأثيرات كثيرة أفرزتها حرب الإبادة التي شنها جيش الاحتلال “الإسرائيلي” على قطاع غزة، أستطيع أن أقف عند ثلاثة مشاهد مهمة ورئيسة، تلك المشاهد التي تفاعلت مع ما يجري في غزة بدقة، وساندت بقدر ما سمحت لها الظروف وأتاح لها المناخ العام.
نقابة الصحفيين تعودة لقيادة المجتمع المدني:
منذ سنوات لم يسمع المصريون صوت نقابة الصحفيين -بتاريخها العريق- مثلما سمع صوتها عاليًا وواضحًا وقويًا منذ اليوم الأول للعدوان على أهل غزة، ففي الليالي الظلماء حضر ضياء النقابة ليقود بشكل جاد وحقيقي مشهد المجتمع المدني المصري بأكمله، تحركات ومؤتمرات وبيانات ووقفات احتجاجية وقوافل إغاثة ولجنة لتوثيق جرائم الاحتلال وضغوط وفضح لكل صور الانحياز غير المهني وغير الأخلاقي للإعلام الغربي للعدوان، وغيرها من صور الدعم والمساندة.
في كل تحركات نقابة الصحفيين ومجلسها المنتخب بقيادة النقيب الحالي خالد البلشي، وبتفاعل واسع من الصحفيين المصريين مع تحركات نقابتهم، استعادة ليس فقط لتاريخ النقابة العريقة وانحيازها الدائم إلى الشعب الفلسطيني وحقه في الحرية، ولا لرفض جمعيتها العمومية الدائم لكل صور التطبيع مع الكيان المحتل، لكن الأهم هو عودة الدور الذي افتقدته النقابة لسنوات عدة مضت في الحياة العامة المصرية، وهي عودة كشفت حقيقيًّا عن الدور الكبير لنقابة الصحفيين في الضمير العام للشعب المصري، والتأثير المعنوي اللافت لنقابة تُمثل أصحاب مهنة الدفاع عن الحقيقة والحرية من حمَلة الأقلام الذين هم دائمًا ضمير الشعب وصوته.
بعودة نقابة الصحفيين إلى دورها الغائب بقيادة مجلسها الحالي، وبدورها المهم في دعم ومساندة الشعب الفلسطيني، ورفضها ومواجهتها للعدوان المجرم مكسب للقضية الفلسطينية، وصحوة لواحدة من أهم المؤسسات المصرية التي حملت راية الدفاع عن فلسطين طوال تاريخها، وتذكير بمعارك دخلتها النقابة مع أنظمة الحكم التي أرادت فرض التطبيع جبرًا على النقابة وفشلت دائمًا في كل محاولاتها، حتى وصل الأمر بالرئيس الراحل أنور السادات لمحاولة تغيير دور النقابة إلى ما يشبه النادي الاجتماعي رفضًا لمواقفها المستقلة، وعقابًا للصحفيين المصريين الذين رفضوا دائمًا أن يدخلوا بيت الطاعة الذي تُعده السلطة لأصحاب الرأي، وانحازوا بلا تردد إلى رفض الاحتلال والتطبيع بوصفهم ضمير الشعب المصري.
الأجيال الجديدة تواجه العدوان:
في الصباح وعلى مقهى صغير، كنت أحتسي فنجانًا من القهوة قبل بدء يوم العمل المشحون دائمًا بأخبار العدوان ومآسيه، بجانبي يجلس شابان يتناولان وجبة الإفطار، يبدو من هيئتهما أن سنهما لم يتجاوز العشرين عامًا على الأكثر، كان تركيزهما مُنصبًّا على “التلفزيون” وهو ينقل تفاصيل حرب الإبادة على قطاع غزة، طوال الوقت لم ينطقا بكلمة واحدة ولم تغادر أعينهما شاشة التلفاز أبدًا، يبدو عليهما الغضب والتأثر، بعد انتهائهما من تناول وجبة الإفطار جاء موعد “الطلبات”، عامل المقهى يسألهما عن المشروبات المطلوبة، انطلق الاثنان بصوت واحد تقريبًا، أي مشروب “مقاطعة”، والمقصود أن يبتعد عن المشروبات الغازية التي تندرج تحت بند قوائم السلع التابعة للدول التي تدعم العدوان.
في اللحظة نفسها التي طلب فيها الشابان “مشروب مقاطعة”، كنت أفكر فيما أبرزته فلسطين في المجتمع المصري، وكيف تأثر هذا الجيل بما يحدث في غزة بهذه الدرجة، وهو الجيل الذي لا يعرف الكثير عن الصراع العربي الصهيوني، ثم إنه الجيل الذي عاش غالبية عمره وقضية فلسطين في حالة ثبات كامل، أقرب إلى الموت، هذا الجيل الذي يمثله الشابان اللذان أعلنا المقاطعة بوضوح هو نفسه الذي تصدَّر مظاهرات دعم الشعب الفلسطيني في الأيام الأولى للعدوان، وهو نفسه الذي ينشر بكثافة قوائم السلع المطلوب مقاطعتها سواء في الشوارع والمقاهي ووسائل المواصلات، أو على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو الذي تفيض صفحاته على الشبكات نفسها بالكتابات الداعمة لفلسطين وغزة والرافضة للعدوان وحرب الإبادة، هذا الجيل ينتمي إليه ابني الطالب الجامعي الذي لم أسأله عن خبر خاص بحرب الإبادة إلا وجدته متابعًا لأدق تفاصيله، ولم يمر يوم إلا وظل الحديث بيننا ممتدًّا عن العدوان، وفي لهجته لا يبدو التعاطف فحسب وإنما الغضب والتأثر والرغبة في الدعم، هذا الدعم التي اختار جيله أن تكون فكرة المقاطعة رمزًا له.
هذا جيل مصري رائع أخرجته فلسطين إلى النور، وكشفت بلا مقدمات درجة وعيه واهتمامه بالشأن العام، مثلما صنعت الانتفاضة الفلسطينية في العام 2000 وصورة الشهيد محمد الدرة جيلًا يخرج من المدارس الثانوية والإعدادية للتظاهر في الشوارع، قبل أن يكون جيل الدرة هو نفسه الذي يملأ ميدان التحرير بعد نحو عشر سنوات في ثورة 25 يناير الخالدة.
المقاطعة سلاح البسطاء:
باختيار الجيل الشاب فكرة مقاطعة السلع التابعة لدول العدوان وسيلة للدعم، انتشرت الفكرة في المجتمع المصري انتشارًا غير مسبوق، ووصلت إلى بسطاء الناس وغالبية الأسر المتوسطة، التساؤل عن دولة المنتج ينتشر في منافذ بيع السلع بدرجة مدهشة، وكأن المقاطعة قد تحولت إلى سلاح مقاومة يمتلكه كل الناس، رسالة أرادت الأسر البسيطة إيصالها إلى المحتل وأعوانه: نحن نرفض ظلمكم وعدوانكم ولن نُعدَم الوسائل التي نقاوم بها حماقة موقفكم، في المدن المصرية الكبرى لم يعد من الصعب ملاحظة مطاعم وأسواق خاوية من الناس بشكل لافت، في حين تزدحم أماكن أخرى ببسطاء الناس وبالأسر المتوسطة في رسالة لا تخطئها العين.
أحيت فلسطين ما غاب عن المجتمع المصري لسنوات، وأحيت معه روحًا كانت مختفية داخل المصريين الذين انشغلوا بضغوط الحياة وصعوبتها، لكنه اختفاء مؤقت يظهر سريعًا في اللحظات الفارقة، فهنا يستدعي المصريون مخزون التاريخ والقدرة الدائمة على المقاومة، والرغبة النبيلة في الانتصار.